بدءا من باكورته القصصية «كمن يهش ظلا» ثم «أسلاك تصطخب» أثرى الكاتب اليمني أحمد زين، السردية العربية بمنجز قصصي وروائي مميز، ثيمات وأسلوبا وتخيلا، يتكئ على وقائع تتقاطع فيها الأحداث التاريخية والتحولات المجتمعية ولواعج الذوات الإنسانية، لاحظنا سردية مُشبعة بالحداثة في باكورته القصصية «كمن يهش ظلا»، عنوان المجموعة في حد ذاته يتمتع بشعرية رائقة، عنوان يحتفي بجمالية الصورة الشعرية، كما النصوص التي تشبه إلى حد ما قصائد النثر في ديناميتها اللغوية التصويرية، بل الصواب حتما أن شعراء قصيدة النثر العرب لطالما استفادوا من الأساليب اللغوية الحديثة، بل المعاصرة لكُتاب القصص والرواية الجديدة الهادمة للبناء الكلاسيكي.
لا تخلو الشخصيات المركزية في الرواية، موضوع القراءة، من مُضمرات تحضر فيها الذات الكاتبة بلمحات سيرية مواربة تنفلت مذعنة للبناء الروائي بلا قصدية قسرية، لاستدعاء الذات، الاستدعاء يحدث أثناء الكتابة لا شعوريا، فلا يمكن فصل الكاتب مطلقا عن نصه الإبداعي، إنما يكون الفصل جزئيا، فالرواية تكتب بالمشاعر والرؤى والتخيلات، يتداخل فيها الشعور الفردي مع الشعور الجماعي للجماعة الوطنية مثل اليمنيين، أو لأي جماعة بشرية في رقعة جغرافية ما، أو في العالم برُمته. هذا ما نستشفه في باكورته الروائية «تصحيح وضع»، الصادرة عن مؤسسة الانتشار العربي 2004 في طبعتها الأولى.

السيرة الغيرية: حكايا الشتات اليمني
تحت سطوة ظلال الآخرين يأخذ المسار السردي لرواية « تصحيح وضع» ملمح السيرة الغيرية، رواية تحتفظ بجماليتها الأدبية وتنفتح على تقنية التوثيق التسجيلي ببصمة فنية مُخلصة للأدب ولمفهوم الكتابة الجديدة، رغم تقصُّد الكاتب التخفُف من النزوع الشعري الجمالي، الذي ميَّز مجموعته القصصية الأولى، نص «تصحيح وضع» يكتنز بمشهدية قصصية، أو لنقل محكيات مشدودة إلى بعضها بعضا، كأسنان المشط دون خطّية كلاسيكية، تلك الحبكة الممسوسة بأنفاس تجريبية، تعلن الانتماء إلى الرواية الجديدة الممتدة والمتجددة دوما، «قاسم» الشخصية المحورية تتقاطع عبرها أحداث الشتات اليمني القسري، الناجم عن حروب أهلية وصراعات وأزمات اقتصادية واجتماعية مترتبة عنها.
فالشخصية المركزية «قاسم» يستطرد بالمونولوغ (الحوار الداخلي)، أو في حوارات مع الشخصيات الأخرى، مأساة الشتات اليمني، ينسج حكاياته عن آلام اليمني وغربته المستدامة، هكذا تناول مأساة الترحيل الجماعي للمغتربين اليمنيين من السعودية، مطلع تسعينيات القرن المنصرم، مُحيلا إلى أحداث سياسية مستمدة من التاريخ الحديث لليمن، كالحرب بين الجمهوريين والملكيين عند نهاية الستينيات، أحداث 13 يناير/كانون الثاني، الوحدة اليمنية، وثيقة العهد والاتفاق، وحرب صيف 94، وغيرها من وقائع تدل على المصير الجماعي لليمنيين سِمته الأساس دفع ضريبة الصراع بين النخب المؤدلجة من أجل السلطة. الرواية ليست وثيقة تسجيلية للأحداث بقدر ما هي كتابة التشظي للتداعيات المؤلمة، التي عاناها اليمني في نزوحه وعبوره للحدود بين شمال اليمن، الذي كان سعيدا، وجنوب السعودية، تدور تداعيات الأحداث في المناطق الحدودية ومدن جنوب المملكة، تتواتر الاسترجاعات لدى السارد تارة ولدى الشخوص تارات أخرى، تقنية الاسترجاع بمثابة وضع الأصبع على الجرح التاريخي متعدد الأوجه الذي كابده الشعب اليمني.
المصير الجماعي لا يلغي المصائر الفردية للشخوص، هذه الأخيرة حفرت مسارات لها وقُدِّر لها ذلك، ليس بالضرورة تصبُّ في المسار العام، فالحيوات الفردية لها منعرجاتها وقلقها الوجودي وأحلامها وإحباطاتها وتطلعاتها، شخصيات تلتقي في سيرة الوجع اليمني العام، لكنها تعيش أوجاعها الخاصة، إنها طبيعة الفردانية الآدمية، كل ولد آدم يعيش مصيره الخاص، متأثرا حتما بالوجع المشترك، ولمّا يكون المُشترك موجعا للغاية، يترك في الذات ندوبا عميقة تصير أوجاعا شخصية ملازمة.

رواية التشظي والاغتراب الداخلي
النص ملسوع بلوعة الاغتراب، أكثر من الغربة خارج الوطن، الغربة قياسا إلى الاغتراب الداخلي أرحم وأقل وجعا وأذية، النوستالجيا هنا ليست موجهة صوب الوطن المتروك خلف الظَّهر اضطرارا، هي موجهة للذات الحائرة، الذات الباحثة عن سلامها الداخلي في المكان الذي تعيش فيه اللحظة، الاغتراب الداخلي أقسى وقعا وإيلاما جوّانيا، هذا الشعور الحاد كالسِّكين، يتقاسمة الكُتاب والأدباء وكل مثقف ملدوغ من الجحر مرّات ومرّات، هؤلاء من النُدرة بحيث يحبون العزلة الباذخة للتأمل والكتابة.
الزمن الدائري يسير على إيقاع الوعي الشقي من يسكن دماغ «قاسم» وكل مثقف حمل هموم العالم وهموم الذات في قلبه، الوطن كمأساة شخصية وجماعية، ليس للزمن في الرواية مسار خطّي، هو زمن زئبقي لحظة الشعور الداخلي بالفقد والتيه، حتى الشخوص والأمكنة، كأنما هي هالات ضبابية تعبرُ عبور الطيف المشهدية المُجزأة في لوحات، بعين لاقطة يسردها الكاتب في تصويرية لُغزية، ما يجعل الإحساس بالفقدان والتشظي والتيه وعدم اكتمال الحكي كاشفا عن المُضمر الكامن: السردية اليمنية ليست سردية جماعية فقط، بل هي أيضا سرديات فردانية موغلة في قلقها الوجودي، ومن له الوعي الشقي الناجم عن هذا القلق سوى المثقف المطحون بالأسئلة والاغتراب.

*القدس العربي