الجو الخانق لا يعني بالضرورة أنه فصل الصيف. من فوق السرير المحاط بستارة خضراء مزرقة، والمقابل لنافذة تبعث على الضيق كنتُ أتصبب عرقاً كسمكة عالقة عند شاطئ بحري، أبحث في الهواء عن شهيق بعادل ما في رئتيَّ من زفير.
تحت ثقف نظرات الممرضة تراودني رغبة العطس. استندتُ بكوعي لأرفع نصف جسدي محاولة أن لا أحرك الأنابيب الموصولة بي.
– مجرد تحليل للأنسجة.. لم كل هذا التوتر؟ قالت لي
لم أجد صوتي لأجيبها ” أريد فقط أن أعرف من أية نطفة وبويضة أنجبتها!”
يصعب على ذاكرة مثلومة استرجاع التفاصيل بدءاً من نقطة معينة قد لا تعني شيئاً، وربما هي أصل الأشياء، فحين تلدين طفلة لها لون اللفت، فأنتِ لا تستطيعين التكهن إلا بنسبة جمالها مقارنة بمولودات العائلة.
أسميتها جهينة، كانت بكر زواجي بخالد. حب لطيف أدى إلى بناء أركان بيت صغير بشرفة ربيعية، ولكنني إن شئتم الدقة لم أكن بحاجة إلى بنت لم تعتذر عن قدومها، بل ظلت تلعلع ببكاء حاد. منذ لحظة ولادتها تردد صدى صراخها بين الجدران إلى حد إزعاج الممرضات والرضع وأمهاتهم.
ضميها إلى صدرك وستهدأ. لم أفعل.
تجارب الأخريات كانت مختلفة إلى هذا الحد أو ذاك، فكل طفل يولد بجيناته الخاصة وقائمة من المتطلبات سواء تعلق الأمر بمواعيد النوم أو الطعام وكذلك الوزن والطول. طفلتي على ضآلتها جحيمٌ مصغرٌ لم تنسني رغبتي بإنجاب صبي أتباهى به. بتُّ أحلم به يتكور في أحشائي، فالمرأة التي لا تنجب ذكراً تظل بطنها خاوية.
استعصى الحمل. قصدت مزارات الأولياء الصالحين، وأشعلت شموعاً لا تعد ولا تحصى في الكنائس، قرأت ختمة قرآن على نية الصغير المرتجى، وربطت في فروع شجرة الأماني عقداً ملونة. كنتُ أتحينُ مواعيد الإخصاب لممارسة الحب مع زوجي ولو من دون رغبته.
” إنه الوقت المناسب” أدفعه إلى القيام بواجبه، فيجاريني متأففاً.
لم يكن هوسه بالإنجاب يجاري هوسي.
رغم تكرارا المحاولة بقي بطني عقيماً كصحراء لا تنبت، بعد عدة مضاعفات طبية اضطر الطبيب آسفاً إلى استئصال رحمي.
كانت جهينة تكبر، نتقاسم أنا وأبوها مهام رعايتها وإن كان يتكفل بحصة أكبر. الطفلة التي تحطم كل ما تطاله يدها، زَهريّة كريستال ثمينة، الكوب الذي تشرب منه، إطاراً كان يضم صورة جديها، تحولت على نحو مفاجئ إلى صبية غامضة تختلي في غرفتها وتتجنبني.
في الزيارات النسائية عندما تتباهى صديقاتي ببناتهن الرقيقات المطيعات، وينظر نحوي بانتظار ما سأقوله، كنتُ أستفيض بكذبات بيضاء أحاول شخصيّاً أن أصدقها، أضطر إلى وصف ابتسامتها الملائكية، وطيبتها، وروحها المرحة، متجاهلة حقيقة شجاراتنا بعد كل مرة تستعمل فيها مكياجي دون إذن. القيام التي تقوم لأنها ترمي ملابسها. خروجها بلا سبب وعودتها بلا موعد. إغلاق الأبواب وراءها بعنف. لم يكن كل ذلك يروقني. أصرخ في وجهها بكل ما في حنجرتي من قوة، فتحول أذنيها إلى قطعتي عجين. لا تهتم.. بإصرار من يتعمد الإزعاج.
بين وبين نفسي أعرف أن علاقتنا تسير نحو الأسوأ .
عندما أجادل زوجي في أمرها يقولُ لي: لا تغضبي، إنها تشبهك.
– أنا أنانية؟
– نعم .. أنانية وعنيدة. اتركي أمرها لي.
تنقسم حياتي إلى ثلاث مراحل: ليتها كانت ولداً… محاولات الإنجاب الفاشلة… وكل ما جرى بعد ذلك.
صرخت جهينة في وجهي:
– سأتزوجه برضاك أو بدونه.
– يا بنت أنا أمك.
– أعرف منذ البداية أنك لم ترغبي بي، فلا تكوني أماً هكذا فجأة.
كما لو أننا فقدنا صمام الأمان بيننا. بوفاة أبيها تحولنا إلى امرأتين تعيشان تحت سقف واحد، ولا تكفَّان عن خوض المشاحنات، إن لم يكن بشأن عريسها الذي لم يعجبني، فلأسباب تستجد مع كل صباح.
بدا لي أن مواجهة قنفذ يُشهر أشواكه فكرة لا تخلو من الحماقة.
تزوجَته رغماً عني، وفاجأتني.. بلد أن تنتقل إلى بيت الزوجية كما تمنيت، أقاما معي فلها -كما قالت بسفاهتها المعهودة- صحة إرثها الشرعي.
بعد إنجابها توأمين احتاجت غرفة إضافية. اختارت غرفتي المشمسة التي تناسب دون شك طفليها. دارت دورة كاملة لتقنعني بدار العجزة.
– ستتسلين مع نساء في عمرك يا أمي، غرفة خاصة نظيفة وعناية طبية على مدار الساعة!
وفق قوانين الطبيعة الكلاب تلد كلاباً، والثعالب تلد ثعالبَ، والأسماك تلد أسماكاً، والحوت يلد حوتاً، والحمار يلد حماراً، أما البشر فيلدون جنساً مطعماً بين الذئاب والكلاب والنمور والأسود إلخ.. إلخ.. إلخ..
*قصة من مجموعة ” مرصد المتاهة ” الصادرة عن منشورات دار تكوين/ الكويت
Leave a Reply