في الطابق العلوي خبط أقدام، وفي الطابق السفلي صراخ مكبل يصطدم بقضبان مجنزرة، وبين الطابقين طوابق بكماء لم يسمع لها صوت من زمن طويل.. مساجين الطابق العلوي يقفون بطوابير متهالكة وراء باب حديدي لا ثقب فيه لمفتاح، اقترابهم من الباب كان آلياً كفراش يقترب من الضوء، وإن كان من المعيب أن نستحضر علاقة الفراش بالضوء، ونحن نتحدث عما يحدث وراء باب جهنم… صوت تكسير الأبواب بشيء حاد كان يملأ صدورهم بالفزع، فالباب لم يفتح من قبل، إنه مجرد رسم مستطيلي بلون غامق يتوسط حائط من الحيطان الأربعة التي تسور رقعة إقامتهم.. ومن يسأل عن طريقة تزويدهم بالطعام أو بقرار الإعدام، فعلى خياله أن يصل إلى أبعد تصور ممكن، وإن وافقني الجميع على استحالة نجاحه…
الباب تم كسره، ليخرج أشباه الأحياء من السجناء مترددين خائفين متوجسين ممن فتح الباب، وممن سبق وأقفله عليهم بتواريخ نسوا أرقامها ومناسباتها.. كانت طريقة خروجهم من منطقة الموت الصامت، لا تشبه التصور المتعارف عليه للخارجين من سراديب السجن، خطوة للأمام وخطوات للوراء في حالة من التيه الذي لا يستطيع التفرقة بين الممكن واستحالته.. خروجهم من دون أصفاد، كان محكم الإقفال بأصفاد الخوف، لم يفهموا كلمة «أخرجوا» التي رددتها الأصوات الغريبة المعلنة تحريرهم، فمشوا كخرفان هزيلة البنية تساق إلى المسلخ، سنوات التعذيب أنستهم كيف بإمكان الخلاص أن يكون الضوء في غياهب العتمة، فبدوا كمن يفضل البقاء على ما هو عليه من الخروج إلى مساحة مجهولة، لا يتذكرون فيها خريطة الطريق إلى هويتهم!
«أخرجوا.. أخرجوا» نداء يتكرر في رواق أبواب تُكسر لتوها، «أسرعوا بالخروج» صراخ يحاول جر المساجين، مما كان يُقربهم من نهايتهم أو بالأحرى مما كان سينهي عذاباتهم بحبل أو محرقة أو مكبس…
النداء يشتد من دون أن يفهم أصحابه أن الصوت لا يصلهم وأن الصمت يلفهم بأسلاك كهربائية ثبتها سجانهم على أرواحهم قبل أفواههم، وفي حواسهم قبل إحساسهم حتى فقدوا القدرة على سماع حتى أصواتهم، أو أنينهم المتبقي في حناجر يعلوها الصدأ… وفي غمرة التردد بالخروج القسري من زمنهم الضائع، تنتصر أنفاس الحياة الأخيرة فيستسلمون من دون أن يفهموا أو يدركوا ما الذي عليهم فعله بعد إتمام عملية النزوح إلى الحياة خارج الزنزانة… كانوا يركضون وراء بعضهم، جنب بعضهم بغريزة القطيع، لا يشعرون بأقدامهم وهي تركض ولا بالأرض التي يركضون عليها، كل ما يقومون به هو الركض، أو الهرولة، حيث لا تتمكن أقدامهم الضعيفة من حمل أجسادهم الأضعف.. ما من أحد منهم ينظر إلى أحد، ففي يوم الحشر لا يعرف الأب ابنه ولا الإبن أبيه.. الوجوه كانت غاطسة في زوبعة من ظلام وبشر والعيون متيبسة بعد أن مضى وقت طويل على آخر مرة قاموا فيها بغسل وجوههم.. الأكتاف ترتطم ببشر وحيطان والأقدام حفاة تدوس على مسامير، وفي نهاية السرداب وجه الضوء الخجول يمد يده أن امسكوني ولا تخشوا الخذلان..
*القدس العربي