تولد الفكاهة من لا معقولية الواقع ومفارقاته، وهي في رأي الكثيرين خط الدفاع الأخير عن حرية الإنسان ورغبته في مقاومة سطوة السلطة على تنوعها، إذ “تعكس، بحسب موريل، تحولًا من الشعور بالعجز والنقص إلى الإحساس بالتفوق، ورفض الاستسلام، وقدرةً على التحرر من أسرِ الأسى”.

لكنّ الأسى الذي اختبره السوريون على مدار نصف قرن من حكم الأب، يليه الابن، جعل العقد الأخير ليس فقط الأكثر دموية، مما يطيق إنسان احتماله، بل أيضًا أشدها سريالية. فالقمع والرقابة والخوف وإيقاف عقارب الزمن عند الأبدية (وهذه حكاية أخرى)؛ جعل الفكاهات بلا روح وحوّلها إلى شيء مغاير.

إذ فقدَ الواقع منطقّيته، وتأقلم الإنسان السوري مع سرياليته، وبدا كل خارج عن المألوف طبيعيًا. فامتد القمع من لغة السوري إلى كيانه العميق، وحُجبت عنه روحه الحرة. قُلّمت فكاهاته، ونُزع عنها فتيل قوّتها، وحلّت فيها روح هدامة افتقرت لقوة الموقف الأخلاقي، وغدت تعبر عن جفافٍ روحي ووعي مشوه.

وفي حقبة الأب، كانت النكتة اللمّاحة كفيلة بأن تودي بصاحبها، أما في عهد الابن فقد انصبت السخرية على شخصيات النظام، والتي كان أغلبها يتسم بالبلَه والجرأة. فهذه الدمى الهزلية، التي تنوعت مواقعها (محلل سياسي، عضو في البرلمان، إعلامي، جنرال حرب)، كان يجمعها: جهلها باللغة، إذ ينصبُ أحدهم الفاعل ويرفع المفعول، أو يصيغ عبارة غير مفهومة، أو يجافي عبر منطق أعوج الواقع الحقيقي.

ولم يكن وجود هذه الشخصيات سوى طريقة بدت وكأنها تؤدي دورًا في مسرحية هزلية أمام شعبٍ اعتبره -الأخ الأكبر- مجموعةً من الأطفال القُصّر. وقد نجحت، رغم هزالها الإنساني، في حرفِ الأنظار عن الواقع السياسي المرير.

فبدت الأخطاء الساذجة لهؤلاء كمخرج وحيد لواقع سياسي مسدود، وتبديدًا لقوة النكتة، وتعميقًا وتعزيزًا للخوف والتيه الذي وجد السوريون أنفسهم عالقين فيه.

الفكاهة بعد سقوط النظام

وفي الأيام التي أعقبت سقوط النظام السوري في الثامن من كانون الثاني/ديسمبر 2024، ومع تنفس أولى نسائم الحرية، استعادت الفكاهة ألقها، وحاولت أن تسترجع شيئًا من روحها، إذ انصبت على الرئيس المخلوع ومشهد فراره المخزي. ثم أصبحت شخصياته الهزلية موضع سخرية؛ ولعل أبرزها قائد قوات الفرقة 25، سهيل الحسن، الملقب بـ”النمر”.

وفي هذا السياق، كانت الفكاهة وسيلة للتحرر عبر إدراك ضآلة الطغاة، الذين يُثبت الزمن أنهم لم يكونوا آلهة، بل فزّاعات من القش.

لذلك، لم تكن الحالة الهستيرية التي عاشها قسم كبير من السوريين ليل الرابع والعشرين من كانون الثاني/ يناير 2025، بعد نشر يوتيوبر عبر قناته ذات المحتوى الساخر إشاعة تشير إلى تسليم الساحل السوري لماهر الأسد، شقيق الرئيس المخلوع، وإنزال مظليّ لقوات “النمر” فوق جبل زين العابدين، حالةً طارئة، بل امتدادًا لعقودٍ من الخوف.

جعلت هذه الإشاعة قسمًا من السوريين، وبعض مؤيدي السلطة السابقة، يسارعون للاحتفال، بينما بادر آخرون لإطلاق النار ابتهاجًا بعودته، إلى أن انقلب الحال مع إدراكهم أنهم وقعوا ضحية مزحة تحولت إلى جد.

المزاح في ظل الاستبداد

يبدأ الأمر بالهزل والضحك، وينتهي بتدمير حياة إنسان: هذا ثمن المزاح في ظل أنظمة شمولية تُفقد الإنسان القدرة على التفريق بين الجدّ والمرح. فالإنسان الذي يعيش في ظل استبداد مديد يعلم أن مزحة واحدة قد تودي بحياة إنسان.

وفي النهاية، انتهى المشهد بانقلاب الذين سارعوا للاحتفال على أنفسهم، إذ راحوا يهتفون للقيادة الجديدة. هذه الحادثة، رغم خفتها وظرافتها برأي كثيرين، كانت في مجملها مجرد حكاية حزينة، إذ أظهرت أن الجرح أعمق مما نعتقد، وكشفت عن الرضّ النفسي الذي عاشه السوريون، فأفقدهم القدرة على التمييز بين الحدود، وضاعت المعالم الواضحة في حياتهم بين المعقول واللامعقول.

لم تعد المخيلة السورية تجاوزًا للواقع، ولا “علامة على العظمة” كما اعتقد بودلير، بل علامة على التعاسة اللا محدودة.

هذه التعاسة التي اختزلها الأسد في تحويل نصف البلاد إلى مقبرة، ونصفها الآخر إلى سجن يقيم بين أسواره رهائن فقدت فكاهاتهم أجنحتها، ليتحولوا هم أنفسهم إلى فكاهة.

الفكاهة في ظل الطغاة

في أحد كتبه، يورد كونديرا قصة لستالين الذي قرر ذات يوم أن يذهب للصيد: “ارتدى معطفًا رياضيًا قديمًا، حمل على كتفه بندقية طويلة، واجتاز ثلاثة عشر كيلومترًا. عندئذ، شاهد أمامه طيور الحجل، فتوقف وعدّها فوجدها أربعة وعشرين طائرًا. لكن يا لسوء الحظ، لم يأخذ معه إلا اثنتي عشرة طلقة. أطلق النار فقتل منها اثني عشر طائرًا، ثم عاد ليقطع ثلاثة عشر كيلومترًا نحو منزله، وأخذ اثنتي عشرة طلقة أخرى، واجتاز الكيلومترات الثلاثة عشر مرة أخرى، ليجد نفسه أمام الطيور ذاتها، لم تزل واقفة على الغصن نفسه. أطلق النار عليها، فقتلها جميعًا”.

حين روى ستالين لمرافقيه ومستمعيه قصة طيور الحجل، لم يضحكوا. نظروا إليه بوجوه متشنجة؛ لأنّ أيًّا منهم لم يكن يعرف ما هو المزاح.

فقدان المعنى

لم يستوعب السوريون معنى الفكاهة، فقد فرغت عقود من الخوف -الذي تلاه يأس- أرواحهم من قدرتها على الهدم والتفكيك. وكشفت الحادثة الأخيرة أن الطغاة، رغم تشابه أساليبهم، يثيرون الدهشة لا الإعجاب. فضررهم لا يقتصر على اللغة وبنى التفكير، بل يمتد ليخلق أعتى أنواع اليأس.

تختزل القصة الأخيرة الوجه الأكثر فجائعية للنكتة السورية. إذ لم تكن ليلة الرابع والعشرين من كانون الثاني/ يناير حادثة كوميدية، بل فصلًا من مسرحية تراجيدية طويلة، بطلها الإنسان السوري، الذي عانى عقودًا من الخوف جعلت فكاهاته ذات الطابع الهزلي تتغذى على اليأس، وهو الأخير مولّد الأوهام.

لا يمكن لإشاعة عودة طاغية عبر إنزالٍ مظليّ أو بساط ريح أن تضحكنا، لأنها تبدو تجسيدًا دقيقًا للعبارة التي كتبها أحدهم ذات يوم:
“إذا حدقت في نكتة لوقتٍ طويل، ستبكي كثيرًا.”

*الترا صوت