حتى تطبع كتاباً أيام نظام بشار الأسد، يتعين على المرء أولاً أن يحسب حساب الرقباء، وهل الكتاب ذو طبيعة سياسية بالنسبة لوزارة الإعلام؟ أم أنه ديني بالنسبة لوزارة الأوقاف؟ أم لعله أدبي بالنسبة لاتحاد الكتاب العرب؟ بما أن كل تلك الجهات ما هي إلا واجهة لأجهزة الأمن في سوريا، والتي تمحص العناوين المقترحة للكتب، وفي أحسن الأحوال توافق على طبع الكتاب بعد إضافة تصحيحات شاملة تجريها سطراً بسطر على كامل نصه، أو ترفض نشر الكتاب برمته في أسوأ الأحوال.

وحتى بعد صدور الموافقة، تبقى حياة الكتاب في المكتبات قصيرة، إذ عندما ساءت علاقات سوريا مع العراق، صار من واجب أجهزة الأمن زيارة متاجر الكتب والمكتبات لتأمرها بإزالة الكتب التي تثني على الحكومة العراقية، أما الكاتب الذي يعلن عن معارضته لنظام الأسد، فإن طرقة على بابه ستقضي عليه هو أيضاً.

وعن ذلك يحدثنا وحيد تاجا، وهو أحد العاملين في مؤسسة دار الفكر إحدى أبرز دور النشر بدمشق كونها تأسست في عام 1957، فيقول: “كنا نتعرض لمداهمات بشكل دوري، ولهذا لم يكن بمقدورنا نشر أي شيء من دون موافقتهم، بما أننا سنتعرض لعقوبة نحن والكاتب إن فعلنا ذلك من دون إذنهم”.

الإفراج عن الممنوع من الكتب

على مدار عمله لمدة 25 سنة في دار الفكر، زاد عدد الكتب الممنوعة في المستودع التابع للمؤسسة، وذلك لأن نظام الأسد كان متقلباً، ولذلك كان موظفو الدار يسحبون الكتب من المكتبة ويعيدونها إلى المستودع.

عند سقوط النظام السابق بفضل هجوم خاطف امتد لأحد عشر يوماً في مطلع كانون الأول الماضي، كان أول شيء خطر ببال تاجا هو تلك الكتب التي تراكم فوقها الغبار، والتي لم يقرأها أحد طوال سنين، وهكذا، فتح صناديق الكتب التي كان محتواها يعتبر خطيراً واحداً تلو الآخر وأعادها لرفوف مكتبة دار الفكر من جديد.

أدهم الشرقاوي الذي كانت كتاباته عن الإسلام تعتبر موضع جدل، وبرهان غليون ذلك المفكر السوري الذي يحمل الجنسية الفرنسية والذي بقي معارضاً لنظام الأسد منذ أمد بعيد، وباتريك سيل، الصحفي البريطاني الشهير الذي ألف كتاباً عن آل الأسد فيه الكثير من المحاباة لهم، كل تلك المؤلفات أصبحت موجودة مرة أخرى في المكتبات الدمشقية.

أما تلك الكتب التي صنفت ضمن المنطقة الرمادية، أي أنها لم تكن ممنوعة ولا حصلت على موافقة، والتي لابد للزبون أن يطلبها بالاسم، فقد أخرجت من مخابئها هي أيضاً، وكان من بينها روايات خالد خليفة، ذلك الكاتب الذي بقي يعيش في دمشق إلى أن وافته المنية في عام 2023، والذي كانت قصصه التي طبعت في بيروت ووصلت إلى دمشق، تحمل جرأة غير معهودة يشوبها انتقاد مبطن لنظام الأسد.

ومن الكتب التي لم تمنع أبداً في سوريا رواية جورج أورويل 1984 على الرغم من أوجه التشابه الصارخة التي قدمتها مع أجهزة الأمن الشمولية لدى نظام الأسد، غير أن نظرية تاجا تجاه السماح ببيعها في البلد بسيطة جداً وهي: “أرادوا لنا أن نتخيل بأن لديهم الإمكانيات نفسها، وبأنهم يراقبوننا أينما كنا”.

مع رحيل نظام الأسد، لم يعد كتاب أورويل يمثل تهديداً، بل مجرد ذكرى لما كانت عليه الأمور، وهذا ما جعل تاجا يقول: “أصبحت هنالك حرية الآن، ولم يعد لدينا أي خوف، لأن الأمور اختلفت كلية، والجميع بات أكثر ارتياحاً”.

ليست الكتب الممنوعة وحدها التي عادت إلى دمشق، لأن سائقي سيارات الأجرة صاروا يشتكون اليوم من ازدياد وضع حركة المرور سوءاً في العاصمة، بعد أن ملأت سيارات تحمل لوحة رخصة تبين أنها قادمة من إدلب شوارع المدينة التي نفي منها السوريون لأكثر من عشر سنوات، كما أصبح الرفاق والأصدقاء يرسمون مستقبل بلدهم بصوت عال وهم يحتسون فناجين القهوة في المقر التاريخي للنخب المثقفة بدمشق، ألا وهو مقهى الروضة، بعد أن تحرروا من عيون من يراقبهم من المخبرين العارفين بكل ما يحدث في سوريا.

في متجر إكسليبريس للكتب الإنكليزية الذي تأسس قبل 23 عاماً في أحد الأحياء الراقية بدمشق، ما تزال مجموعة واسعة من الكتب فيه تحمل آثاراً لسيطرة نظام الأسد البائد، وذلك لأن أسعار الكتب المستوردة شطبت جميعها من على الكتب خوفاً من إثارة الشكوك حول فكرة التعامل بالعملات الأجنبية، مما قد يترتب عليه عقوبة بالحبس لمدة تزيد عن الشهر.

لا خوف بعد اليوم من التسعيرة الأجنبية

لم يصل للمتجر أي كتاب جديد منذ عام 2019، لكنه ظل صامداً بفضل الشحنة الهائلة من الكتب التي اشترتها مالكة المتجر، ريما سماقية هدايا، وذلك خلال المعرض الدولي الأخير للكتاب الذي أقيم في سوريا، بما أن السلطات السورية كانت تتساهل كثيراً تجاه دخول الكتب إلى سوريا خلال فترات المعارض الدولية للكتاب، وذلك خدمة لدور النشر الأجنبية.

حصلت جميع عناوين الكتب الموجودة في هذا المتجر على موافقة النظام السابق، وهذه الكتب تتراوح ما بين روايات هاري بوتر وصولاً إلى كتب نعوم تشومسكي، وذلك لأن هدايا لم ترد أن تعرض نفسها ولا موظفيها لأي خطر، وعن ذلك تقول: “الآن شعرنا بأنه صار بوسعنا أن نتنفس، إذ لم يعد يقلقنا أمر مجيئهم إلينا وملاحظتهم وجود كتاب يحمل تسعيرة بالجنيه الإسترليني أو بالدولار بعد أن نسينا محو ذلك عنه”.

ما تزال صاحبة المتجر بانتظار التوجيهات من السلطات الجديدة قبل أن تستورد مزيداً من الكتب، وذلك لأن الثوار السوريين الذين يحكمون البلد الآن، والذين يوصفون بأنهم تبنوا عقيدة معتدلة من الإسلام بعد تشددهم فيه، لم يصدروا أي تعليمات موجهة لدور النشر أو متاجر بيع الكتب، كما أن العقوبات الغربية تمثل عقبة أمام مستوردي الكتب في سوريا، بما أن تلك العقوبات ما تزال مفروضة على البلد على الرغم من سقوط نظام الأسد الذي يدعي من أصدر تلك العقوبات أنها وجدت لمعاقبته.

ولهذا تأمل متاجر الكتب ودور النشر في دمشق أن تستمر فترة الحرية هذه في البلد، وألا يتكرر ما حدث خلال فترة ربيع دمشق في عام 2001، وذلك عندما سمح الأسد الابن بعد مدة قصيرة من تنصيبه رئيساً للشعب السوري بأن يتذوق طعم الحرية لفترة وجيزة، وذلك قبل أن يغلق الباب الذي فتح على تلك الحرية مرة أخرى.

تعلق هدايا على ذلك بقولها: “مازلت أراقب من بعيد، ولكن لدي أمل كبير، مع أني بحاجة لأن أرى ما الذي سيفعلونه فيما بعد”.

*جارديان

*تلفزيون سوريا