لا أحد يجهل قصّة السيدة العذراء التي تعترف الديانات الثلاث بوجودها، وبأنها أمّ “المخلّص” يسوع، الذي حملت به بعد أن ظهر لها الملاك جبريل، وبشّرها بأن الربّ اختارها لهذه المهمّة. ومع ذلك، تختار مريم في فيلم “ماري” (إنتاج نتفليكس) أن تروي لنا بنفسها قصّة مولدها ومراهقتها، وصولاً إلى حملها، واعدةً إيّانا بكشف ما لا نعرف. فهي ستظهر في بداية الفيلم ممتطيةً حصاناً، قبل أن تنظر إلى الكاميرا وتقول: “تظنّون أنكم تعرفون حكايتي؟ لكن صدّقوني أنتم لا تعرفونها”.
وبالفعل، لم نكن نعرف قبل مشاهدة هذا الفيلم أن ماري المراهقة تشبه صبيّةً خارجةً من مجلّةٍ عصريةٍ للموضة، وأنها في مواجهة هيرودوس، الذي يزور المعبد، تبدو عاصيةً متمرّدةً، وأن الملاك جبريل يشبه عفريتاً أكثر منه ملاكاً، وأن يوسف النجّار يجيد اللعب بالسيف والترس، وأنّ… حتى ليتساءل المرء، ما الذي يدفع منتجي الفيلم إلى اختيار موضوع لا يهدفون من خلاله إلّا إلى صنع فيلم “أكشن”، فيه مطاردات ومبارزات، ومجرم قاتل مجنون (الملك هيرودوس)، وجنود قساة.
وعلى الرغم من أن المخرج، د. ج. كاروزو، وكاتب السيناريو، تيموثي مايكل هايز، أخذا حرّيتهما في اختلاق أحداثٍ غير مثبتة أو واردة في الأناجيل الأربعة، كأن يقال إن يوسف كان شابّاً وسيماً مفتول العضلات، وإنّه ومريم عاشا قصّة حُبٍّ مراهقين، أو إن مريم اضطُهدت من مجتمعها بسبب حملها خارج الزواج، وكادت أن تتعرّض لعقوبة الرجم بالحجارة لولا أن أنقذها يوسف، وأن إباها، يواكيم، مات مقتولاً بالسيف… إلخ، فإن آفة الفيلم الرئيسة لا تكمن في المغالطات التاريخية فحسب، بل في رسم شخصياتٍ أحادية البعد، مسطّحة، غريبة عن نفسها، فمريم (نُوا كوهين)، التي قال المخرج إنه اختارها يهوديةً إسرائيليةً لتكون الأقرب إلى الواقع، أساء الاختيار، إذ كيف يمكن لمراهقة إسرائيلية ابنة اليوم، أن تدخل إلى جوهر مريم ومعاناتها، والاثنتان متعارضتان كليّة في الكيان والجوهر؟
هكذا نرى ماري ذات أداء “عصري” بالمعنى السلبي للكلمة، غير قادرةٍ على تشخيصٍ قلق واضطراب مراهقة يظهر عليها من الغيب من ينبئها بالحمل، وأيضاً بما ينتظرها من عذاب (سكّين ستخترق قلبها)، مع جعلها تتساءل إن كانت رؤياها مُجرَّد حلم. في المقابل، يحتلّ الملك هيرودس الكبير (أنطوني هوبكينز) حيّزاً مهمّاً، فيظهر كهلاً مختلّاً دموياً، يطعن زوجته اليهودية بالسكّين، بعد أن يأمر باغتيال أخيها في المعبد، ثمّ يأمر ببناء الهيكل الثاني لكي يستميل اليهود إليه، هو الذي عُيِّن بأمر إمبراطوري روماني ملكاً عليهم. هذا وقد أهمل الفيلم ما عُرف عن هيردوس أنّه مصاب بمرض جعل جسده متعفّناً بالتقرّحات والقيح والرائحة المنفّرة، بحيث كان ينادي على خدمه ليسألهم إن كانوا يشتمّون رائحته الكريهة، لكي يقتلهم إن أجابوا بنعم.
يروي الفيلم إذاً ولادة مريم، من الوالدة حنّة والأب يواكيم، بعد سنوات من الصلاة والتضرّع لكي يرزقا بولد، فإذا بالكائن المخيف في ردائه ووشاحه الأزرقين (الملك جبريل)، يظهر ليواكيم بعد قضائه 40 يوماً في الصحراء، مصلّياً متعبّداً، لكي يبشّره بأن الربّ سيستجيب له أخيراً، فيرزقه ابنةً. هذه المعلومات ليست مستقاة من الأناجيل الأربعة المعتمدة، التي لا تكاد تذكر مريم (لوقا ومرقس)، وإنّما من الأناجيل المنحولة، ومن المؤرّخ اليهودي جوزاف، إذ يواكيم هو زارع زيتون من الناصرة. يعاود جبريل الظهور عندما تكبر مريم قليلاً، ليذكّر الوالد بوعده؛ عليه إيداعها الهيكل لتسخِّر نفسها وحياتها لخدمة الربّ.
البقية معروفة.. بيت لحم، بلدة يوسف، حيث هرب بمريم لتلد طفلها، تمتلئ بالحُجّاج، ذلك أن “طفلاً مخلّصاً سيولد فيها”. يخبر الملوك المجوس هيرودوس بذلك، فيأمر بقتل المواليد الجدد، على أن يجلبوا له الطفل المخلّص حيّاً (!)، فيهرب يوسف ومريم بالطفل الوليد يسوع، إلى مصر.
*العربي الجديد
Leave a Reply