• أمجد آل فخري

ذاك السقوط المفاجئ المدوّي للأسدية، أحدث فراغاً جيوسياسيّاً في المنطقة، تبعه خلق توازنات جديدة تحول دون خلل بالاستقرار الإستراتيجيّ الإقليمي، وأضحى همّ إدارة الفراغ، وتحديد مصائر التغيير ومساراته في مقدّمة أولويات المتصارعين المشاركين والمُنسّقين والبعيدين عن هذا وذاك، وربّما لسرعة تفكّك جيش النظام، أو فراره لاقتناعه بلا جدوى العناد، بعدما لمس الانهيار الوشيك، وغسل يديه من مساندة ودعم حلفائه.

منذ سقوط الطاغية، تغيّرت المعطيات، واهتزّت الثوابت تجاه القضية السورية، إذ أن “لعنة الجغرافيا” شرعت بلعب دورها بتحوّل الجهود الإستراتيجية التركية والأوروبية والعربية والإسرائيلية والأميركية للتركيز على سورية، كحامل وفاعل اقتصادي ذي جدوى، فهي غير كونها ممرّاً لأنابيب الغاز والسكك الحديدية والطرق التجارية، خزّان مائيّ ونفطيّ وغازيّ برّي وبحريّ، ومنافس للمرّ الهندي-الأوروبي، سيكون له دور حاسم في تكوين الشرق الأوسط الجديد، وبالتالي بؤرة لصراعات إقليمية ودولية على النفوذ مستقبلاً.

يكفي ما تقدّم لأن تحذّر تركيا من أن الجيش الإسرائيلي قد يصل حدودها، إن توسّعت إسرائيل باتجاه دمشق، وستكون مقدّمة لتفكّك الخريطة السورية، وهو ما يعني أن إسرائيل أكبر تهديد للسلام الإقليمي والعالمي! وذلك ليس ضرباً من الخيال، بل اعتمدت على مقولات إسرائيلية بغزو دمشق، وإعلان ( سموتريش ) بوجوب امتداد حدود القدس إلى دمشق، وعلى إسرائيل الاستيلاء على شرق الأردن! وعلى توصية لجنة ( نحال )، التي رأت تركيا عدوّاً أساسيّاً، إذا ما تحالفت بعد الأسدية مع دمشق. ولا ننسى مزاعم نتياهو بأن هضبة الجولان جزء من إسرائيل، وقد منحه ترامب اعترافاً بضمّها لكيانه وأسرَلَتِها، وأخيراً أنهى اتفاقية فكّ الاشتباك 1974 بنهاية النظام الأسدي الذي وُقّعت معه! إنه يعمل على تكريس واقع جديد على الأرض، وربما سيكون أولى لَبنات مشروعه للشرق الأوسط الجديد، متذرعاً بإزالة التهديدات –أيّاً تكن – وتشكيل بيئة إقليمية مستقرّة أمنياً، تعزّز مصالح إسرائيل أولاً.

وقد أكّد إستراتيجيّوها أن “أمن دولتهم يقوم على تجزئة سورية وتقسيمها والتلاعب بورقة الأقلّيات، وربما إيجاد دويلاتٍ تمثّل العلويين والدروز والأكراد”. وعلى حكومتهم العمل على ذلك في سورية بعد سقوط النظام، وثمّة مؤشّرات لوجود تعاون مع قسد وغيرها في الجنوب، كما لدول أخرى في مواقع مختلفة.

وربّما الهدف إعلان الغضب بعد تهافت أمريكا والغرب والعرب للترحيب بالحكم الجديد، بالتجييش لحماية “قسد” وبقائها فاصلاً يؤرّق ويشغل، وشوكة تنخز وتستنزف الجانبين السوري والتركي، بعد سقوط حامي حدودها لأكثر من نصف قرن، وإقامة نظام يشارك كلّ “الأقلّيات”، ويستبعد المتطرّفين، ويمنع أيّ سيطرة تركية قد تستقرّ، أو هيمنة إيرانية قد تستمرّ.

وتأكّد ذلك بعزم إسرائيل على عقد مؤتمر لتقسيم سورية إلى كانتونات، تحقّق مصالح إسرائيل واستقرارها، بينما تدّعي أن تحرّكاتها على الحدود السورية، أو قصف ما تبقّى من بِنى الجيش السوري؛ إنما لحماية أمنها وسلامة مستوطنيها. بينما تخطّط للاحتفاظ بمنطقة عازلة (احتلال)، ومنطقة سيطرة أو (نفوذ) أمنيّة أبعد عمقاً. وبالتوازي تواجه إدارة العمليات رفض بعض ميليشيات السويداء وفصائل حوران حلّ نفسها، والأهمّ قسد في الشمال والشمال الشرقي، وبعض فلول النظام وشبّيحته في بعض قرى الساحل، ولكلّ منها، بالإضافة لبنيتها المناطقية وتوجّهاتها المدنية والسياسية والإثنية والدينية والطائفية، داعمون وموجّهون وحُماة، وفي الخلف إرادة إسرائيل تنفيذ مشروعها ورؤيتها بضمان الأمن والحقوق لكافة الجماعات الإثنيّة في سورية عبر مؤتمر دوليّ!

        إن استثمار نتنياهو للّحظة السانحة في تطوّرات الساحة السورية باستبدال الإسرائيليين خياراتهم الإستراتيجية تبعاً لتغيّرات المواقف الجيوسياسية في المنطقة، بتحوّل العداء من إيران إلى خوف من تمدّد ” إسلاميّ سنّي متطرّف ” مدعوم تركيّاً، ولكنه-نتنياهو- يلتقي مصلحيّاً، إن لم يكن ينسّق، أو يتوافق ضمناً مع عدوّه الإيراني، في زرع اللا استقرار الأمني عبر دعم بعض المكوّنات والتحشيد لسلامتها ومشاركتها، التي وُسِمتْ من الأسدية، وما قبلها، بالأقلّيات، إذ جعلت من نفسها حامية وراعية لها، وفي ذات الوقت استثمارها والاستقواء بها سياسياً في مواجهة الشعب السوري، استرضاءً للغرب، وتعميقاً للشروخ المجتمعيّة التي رعاها منذ خمسة عقود.

        الواضح أن ثمّة مشاريع عديدة تُطرح في بازار الصراع السوري، أمّا المشروع الصهيوني، فيسير بألاعيب مفهومة معلومة، فهي جزء من فانتازيا ضغوط متبادلة، وابتزازات بين المتصارعين، وليس بعيداً أيّ عمل، عسكري أو احتلالي، يمكن أن يقوم به نتنياهو في لحظة انكشاف إستراتيجي كامل لسورية، ودعم أميركي شامل لإسرائيل، وتغيير قواعد اللعبة في المنطقة.

وما الحديث عن تقسيم سورية أو كنتنتها إلّا درءاً لخطر المشروع التركي وتحالفه العربي مع سورية الجديدة، بخلق إشكاليات تعطيها دوراً أساسياً عبر تداول قضية الأقليات بأنواعها، وليس حبّاً بالكُرد ولا عشقاً للدروز، بل وَلَهاً بمصالحها في سورية ضعيفة منزوعة السلاح، أو مفتتة مشتتة أو مقسمة بعد أن وصلت حدود الفشل كدولة واجتماع واقتصاد، ولا يريدون أن تكون دولة موحّدة تعيد بناء نظام سياسي ودستور وجيش يحمي حدودها. لتحتفظ بما نهشت حتى الآن من أرضها الوطنية؛ فرضاً لواقع جديد يمنحهم جائزة ترضية لحفظ أمنهم، ورسماً لدور جديد يخلق سيناريوات للتدخّلات على غير ما كانت الحال مع الأسدية، ومسوّغاً للجلوس في نادي الوليمة السورية، ومكاناً لنفوذ يساومون ويضغطون من خلاله على النظام الجديد، وصولاً إلى تطبيع لم تكن تبحث عنه منذ أكثر من نصف قرن، لكنها تراهن على ضعف السوريين ولا قدرتهم على التفاهم، فتزيد من تغذية الوقائع بجرعات الطائفية والإثنية والدينية، وتبثّ أكثر تصريحات التهديد بالتقسيم والتخويف من الكانتونات، ووهم القدرة على إعادة دروس غزة ولبنان، في الوقت الذي لا نجد أي قوة دولية أو إقليمية ترى أن يكون ذلك واقعاً بعد أن تجاوزته سورية منذ 2011حتى اليوم.

ينبغي على السوريين في اندفاعهم لاستكمال ثورتهم، مراجعة تاريخهم أولاً، فيمتحون القوة لاستيعاب ما مرّ، للوقوف في مواجهة صلَف كل مشاريع الابتزاز والارتهان والاستثمار، ورسم خطوات المستقبل لسورية موحّدة عزيزة، تتحصّن بعقد اجتماعي، ودستور يؤمّن لكلّ مكوّناتها حقوقهم في المواطنة، والمساواة أمام القانون، في دولة ديمقراطية مدنية تعددية.

  • كاتب سوري