هبت نسمة باردة جافة أنعشتنا بعد نهار طويل من الحر الشديد الذي هجم باكراً هذا العام . قلت لغسان:

  • هذه هي النسمة التي عناها عبد الوهاب في أغنيته ” قلي كام كلمة يشبهوا النسمة في ليالي الصيف ” .

أكد قائلاً

  • بعض الكلام يكون كهذه النسمة . و بعضه يكون حاراً يلفح الوجوه كنار جهنم .

كان المكان مقهى رصيف ليلي في منطقة الشريعة المطلة على وادي العاصي . حيث وزعت الطاولات على مستويين . جلس أسفل منا بعدة أمتار مجموعة شبان. بدأوا فجأة يغنون بشكل جماعي لعبد الحليم حافظ ” جانا الهوى و تعبنا ” . علّق غسان أن جيل شباب اليوم يعود لعبد الحليم حافظ . و استطرد بحديث عن جمالية الغناء الجماعي. قال أن الغناء الجماعي يخفي عيوب الأصوات الفردية ، فعندما تندمج الأصوات مع بعضها تسد كل الثغرات الفردية . قد يكون هناك صوت قوي في القرار و آخر قوي في الجواب, فيكملان بعضهما. هذا سر جمال الغناء الجماعي.

علقت تعليقاً أبلهاً.

  • العمل الجماعي مطلوب  في كل الأمور .

و لو أراد السخرية مني لكان بإمكانه.

كانت هناك فكرة تستغرقني منذ عدة أيام هي

– ما الذي يجعل الفنان خالدا؟

في حالة الإنسان العادي ينقطع ذكره من الدنيا بعد مائة عام من وفاته تقريباً، حين يموت آخر من يعرفه. لذلك يحرص البشر على الإنجاب لأنه يضمنون بقاء ذكرهم حياً في ذريتهم و في سجلات النفوس الخاصة بسلالتهم لمائة عام على الأقل . و كذلك الأحداث التاريخية الكبيرة ينقطع ذكرها عند آخر من سمع بها من الذين عاشوها ، مثلاً عندما كنت صغيراً كانت مآسي سفربرلك ” الحرب العالمية الأولى” . حاضرة في الأحاديث اليومية للناس فلم يكن يمر يوماً إلا و تذكر جدتي حدثاً مرتبطاً بتلك الأيام . لكن الجيل الجديد ، أولادك و أولادي، لم يسمعوا بها إلا من كتب الحرب العالمية الأولى. كانت جدتي من مواليد ثلاثينيات القرن العشرين . و قد سمعت عن “سفربرلك” من أبوها و خالها و عمها الذين عاشوا و عانوا في ذلك الوقت فلا بد أنهم فقدوا أخاً أو أباً أو قريباً ، و لا بد أنهم تضوروا جوعاً في تلك الأيام . و أنا سمعت بها من جدتي التي سمعت بها ممن عاشها . أنا نهاية السلسلة.

قطع الحديث اقتراب فتاة صغير سمراء ترتدي أثمالاً بالية قدرت أنها لا تتجاوز التاسعة عمراً ، اقترحت علينا أن نشتري منها فسارع غسان للاعتذار منها . فذهبت دون أن تكرر عرضها . أو تستعطفنا . هي تحاول أن تكون بائعة و ليس متسولة .  قلت له :

  • كثرة المتسولين الصغار من عيوب السهر في أماكن مفتوحة على الرصيف.

قال :

  • لذلك لم اشتر منها شيئاً . لأني لو فعلت فستخبر أقرانها و عندها نكون قد وقعنا في الفخ لأنهم سيأتون واحداً وراء الآخر .

يأتون من أماكن بعيدة إلى هذا الحي الراقي . يأتون من أحزمة البؤس و يتحركون بمجموعات قد يكونون أخوة أو أقرباء أو جيران يسكنون في حزام واحد. هنا كلهم من مشاع جنوب الملعب أو مشاع الطيار أو الفروسية. يذهبون آخر الليل إلى بيوتهم مشياً على الأقدام أو في أية وسيلة نقل.

عدنا حيث انقطع حديثنا . قال غسان

  • لكن هناك أحداث تاريخية كبيرة لا ينقطع ذكرها بين الناس. مثلاً مر ألف عام على تدمير بغداد على يد هولاكو و مازال الحدث متداولاً .

أمنت على كلامه . نعم هناك أحداث كبيرة جداً لا تنساها ذاكرة الشعوب و كذلك الأمر في الفن. المتنبي مازال يعيش بين الناس و لا أظن أنه سيموت . لكن هؤلاء أشخاص استثنائيون و تلك أحداث استثنائية . الشائع أن يبقى الأمر بحدود مائة عام تزيد أو تنقص قليلاً . سألت صحفية، على ما أذكر، الروائي نجيب محفوظ . سؤالا ً يدور في اطار حديثنا .سألته : أي من رواياته ستبقى مقروءة بعد مائة عام ؟ أجابها أن الثلاثية ستكون كذلك ، و أردف و أن ذلك سيكون لأهميتها الاجتماعية على الأرجح.

علا صوت شاب يجلس على الطاولة خلفي فالتفت إليه. سألنا دون سابق معرفة أن ندعو له بالنجاح. فسأله غسان إن كان طالب بكالوريا . أكد ذلك . فعاد و سأله: علمي أم أدبي ؟ أجاب أنه يدرس في الفرع الأدبي. سألته عما يخطط ليدرس. و كنت أتوقع أن يجيبني أنه يريد دراسة الحقوق. لكنه فاجأني أنه يريد دراسة الصحافة و الاعلام . فضحكت. سألته:

  • و ماذا ستعمل في المستقبل ؟

بُهت الشاب من هذا السؤال . فأكملت :

-تريد أن تدرس الاعلام و الصحافة في بلد ليس بها لا إعلام و لا صحافة !!

ضحك غسان و أكد المعنى فقال  ” مثلك مثل الحمصي الذي يريد أن يصير مديراً لمرفأ مدينة حمص البحري مع العلم انه لا يوجد بحر في حمص “.

كان الشاب في مزاج عال لذلك لم تربكه تعليقاتنا بل شارك فيها . قال

  • عادي ها نحن في بلد فيها وزارة للكهرباء لكن لا يوجد كهرباء.

ضحك و ضحكنا. ثم أكمل الشاب شرح حلمه قال أنه يخطط للدراسة كي يذهب للعمل،بعد أن يتخرج ، إعلامياً في قطر. دعونا له بالتوفيق و  قبل أن نتابع حديثنا جاء طفل صغير يحمل بالونات كبيرة . أيضاً لم نشتر منه . أشرت إلى بنية الطفل الهزيلة الناحلة و قامته القصيرة . كلهم يعانون من سوء تغذية مزمن لذلك تراهم يبدون أقل من أعمارهم الحقيقية . لديهم ظاهرة تقزم واضحة . اقتربت عربة تبيع الذرة المحمصة ” البوشار ” تصدح منها الأغنية الشهيرة الملازمة لهذه المهنة . طير و فرقع يا بوشار . علّقت  :

  • يأتي الخلود من حيث لا تحتسب. عندما غنت جورجيت صايغ هذه الأغنية الخفيفة أول سبعينيات القرن الماضي ، هل كانت تعتقد أن هذه الأغنية هي كل ما سيبقى مسموعاً من تراثها. في حين اندثرت أغانيها الشهيرة مثل أغنية ” دلوني على عيون السود ” التي كانت مالئة الدنيا و شاغلة الناس في منتصف السبعينيات ؟

قال :

-ربما لأنها مرتبطة بعمل محدد.

لم أوافقه الرأي فقد غنى عبد الوهاب أغنية ” يا لي زرعتوا البرتقال ” لكني متأكد أن لا أحداً من مزارعي البرتقال في سوريا أو مصر استمع لهذه الأغنية ناهيك أن يغنيها أثناء قطاف البرتقال . هل السبب احترافية أغنية عبد الوهاب مقابل بساطة و سذاجة أغنية جورجيت صايغ ؟

هز رأسه موافقاً. و علّق بسخرية أنه يعتقد أن الخلود الذي حققته أغنية “البوشار” ليس الخلود الذي يسعى إليه الفنان.

وافقته و زدت أن هناك خلود سخيف و خلود حقير و خلود مجرم . و ذكرت له فكرة مسرحية “انسوا هيروسترات” للكاتب الروسي غريغوري غورين . يتحدث الكاتب عن هيروسترات ، الذي أحرق المعبد كي يخلده التاريخ و يطلب منا أن ننساه كي لا نحقق له غايته .

ضحك غسان . و علّق أن كاتب هذه المسرحية ساهم بتذكيرنا مجدداً بهيروسترات . بل  حوله إلى رمز فقد قرأ مسرحيته ملايين البشر كما عُرضت المسرحية على مئات و ربما آلاف المسارح  حول العالم . و حضرها عدد لا يحصى من البشر ، في نهاية الأمر ساعد الكاتب “هيرسترات” على تحقيق الخلود الذي سعى إليه عبر حرق المعبد.

ضحكت لهذه المفارقة التي التقطها غسان. و تابعت نعم هناك خلود لا يُشرف كخلود الطغاة أمثال هولاكو  الذي خلد نفسه بحرق بغداد . ليس الخلود شيئاً حسناً أو محموداً في كل الأحيان . و حتى القرآن يستخدم لفظ الخلود للأمرين الايجابي و السلبي، فهو يتحدث عن الخلود في الجنة و عنه في نار جهنم.

علا صوت الشباب الذين يجلسون على الطاولة أمامي . بدأ خلاف بينهم على شكل مزاح و يبدو أنه تطور بسرعة إلى مرحلة ما قبل التضارب ، فتدخل الكرسون بينهم بذكاء و أعاد الهدوء.

قال غسان إن الشبان الذين يعملون هنا أغلبهم طلبة جامعيون ، منذ عدة أيام كان أحد طلابي في كلية الطب البيطري يُقدم الطلبات فسلّم علي . أغلبهم من الشمال السوري حيث لا يستطيعون الذهاب إلى أهاليهم في العطلة الصيفية فيعملون كي ينفقوا على أنفسهم .

كانت حركة السيارات في الشارع لا تنقطع و أغلبها يقودوها شبان صغار من عوائل مترفة . احدى هذ السيارات كانت تشفط بطرقة مزعجة لكنها ذهبت الآن . توقفت سيارة حديثة يقودها شاب صغير جانب الرصيف المقابل فصدح منها صوت ماجدة الرومي بأغنية عبد الوهاب ” مش أنا اللي أبكي و لا انا اللي أشكي ” . قلت تفوقت ماجدة على عبد الوهاب نفسه. من الحالات النادرة التي يتفوق فيها التقليد على الأصل . وافقني و علّق أنها كانت أغنية شهيرة في الستينيات . أبديت ملاحظة أن ماجدة اختفت تقريباً لم يعد لها أغاني جديدة و لم نعد نستمع لها.

قال أن ذلك بسبب صوتها . هي من أصحاب الصوت الأوبرالي المستعار و هذا الصوت يتراجع مع تقدم العمر . فلا يعود قادراً على الوصول إلى الطبقات التي كان يصلها في أول الشباب . بمعنى أن ماجدة اليوم لا تستطيع أن تغني أغانيها السابقة . و هذه مشكلة تجعل الفنان الذي يحترم نفسه يحتجب. و الأمر الثاني هو انعدام المقلدين . لا يوجد مقلد يستطيع أن يؤدي أغنية لها . لذلك سرعان ما يُنسى المغني إلا اذا أحيط بظروف استثنائية من لحن و كلمات مبدعة كما حدث مع فيروز التي تغني هي أيضاً بصوت مستعار لكنها نجت من مصير ماجدة لظروف استثنائية أحاطت بها .

استوقفته عند الفكرة الثانية . سألته :

  • كأني فهمت منك أن المطربين المقلدين الذين يغنون في الأعراس و الحفلات الصغيرة يسهمون في تخليد الفنان.

أكد على فكرته .و شرح أنها من غرائب الحياة . و أشار إلى الشباب الذين كانوا يغنون قبل قليل لعبد الحليم . و سأل :

  • من أين تظن أنهم سمعوا بعبد الحليم حافظ ،الذي مات منذ خمسين عاماً ؟

و لم ينتظر اجابتي. أجاب هم سمعوه من مطربي الحفلات و الأعراس التي يحضرونها. إن المقلدين ،و بعضهم يمتلك خامة صوتية جيدة جداً لكنهم لا يمتلكون المال و لا الظروف مهيئة لهم ليكون لهم لحنهم الخاص أو أغنيتهم الخاصة ، هؤلاء ينقبون في التراث الغنائي القديم ثم يختارون منه فيتناقله الشباب. و بعدها هؤلاء يبحثون عن الأصل و يستمعون له . و هكذا دبت الحياة من جديد في عبد الحليم حافظ و غيره. و بالطبع لن يختار أحدهم أغنية أوبرالية بصوت مستعار لماجدة الرومي لأنه لا يقدر عليها ، و حتى هي نفسها لن تستطيع غناء ما غنته قبل عشرين عاماً . تذكرت بيتا من الشعر العربي يقول مع التحفظ على الفروق بين الحالين

اذا أراد الله نشر فضيلة طويت   أتاح لها لسان حسود .

و بالنتيجة ليس هناك وصفة محددة للعمل الأدبي و الفني . فالفلاح بعدما يفلح الأرض و يمسك حفنة القمح و ينثرها في الأرض لا يعرف ماذا سيحل بكل حبة حنطة . أيها ستنتش و تكون سنبلة و أيها سيتحلل في الأرض أو ينقرها عصفور جائع . على الفنان أو الكاتب أو يؤدي عمله باتقان . يحرث الأرض يسمدها يرويها و ينثر حبه فيها .أما الباقي فتتكفل به العناية الإلهية  .بدأت أشعر بلسعة برد فقد تنبأت الأرصاد الجوية ان انخفاض درجات الحرارة يبدأ هذه الليلة .

سألته :

  • و ماذا عن أم كلثوم .

قال هي أمة بذاتها ليس كمثلها شيء. ليس فوقها شيء في عالم الفن و لا بعدها شيء .

  • كيف أفكر بها اذاً ؟
  • لا تفكر . اسمعها فقط ؟
  • و كيف اسمعها ؟

هي قدمت الطريقة . قالت ” فادنو مني و خد اليك حناني . ثم أغمض عينيك حتى تراني “

نهضنا بعد أن سددنا الحساب. و مشينا على مهل نحو السيارة مررنا بشجرة عملاقة. توقفت عندها و أشرت إلى كتابة على جذعها باسمين متجاورين شاب و شابة خلدا علاقتهما . خطر لي ماذا حل بهما يا ترى ؟ و عدت أدندن بأم كلثوم ” ثم أغمض عينيك حتى تراني “.

علق ساخراً :

  • اياك أن تتبع هذه الطريقة برؤية الأشياء أثناء القيادة .

سخرت مثله . و شكرته لتنبيهي لأني كنت أنوي أن أغمض عيناي لأرى الطريق