يبقى من كتاب قرأناه في فترة سابقة من العمر مشهد واحد، أو فكرة واحدة يساعداننا على إجراء أرشفة له في ذاكرتنا. من كتاب توفيق الحكيم مثلا يبقى مشهد المراسلة الغرامية بين رجل وامرأة يقيمان في طبقتين من المبنى تعلو إحداهما الأخرى. في أحيان، نادرة على الغالب، يتسع مشهد عن كتابه ليُحفظ بذاته، مثل حكمة أو آية.
لم تنسني السنوات الكثيرة تلك الجملة المحيّرة في كتاب عنوانه «الجحيم» للكاتب الفرنسي، الحاضر بقوة آنذاك في سنواتنا الجامعية، هنري باربوس. كانت تلك الكلمات القليللة تمثّل مقاتلاً مدجّجاً بسلاحه ودروعه، خارجا لتوه منتصرا من معركة تواجهت فيها قوى إمبراطورية قديمة، وراح يمشي على الشاطئ وحده. كتب باربوس أن ذاك المشهد خالد لن يزول، رغم اليقين بأن الرجل نفسه سيموت، وأن خطواته سيمسحها الماء المتتالية موجاته على الرمل. لكن المشهد سيبقى خالدا، كتب باربوس داعيا إياي إلى الاقتناع بأن فكرته ليست مجرد نزوة كتابية. ذاك لأني صدّقت ما قرأت، وكان ذلك قد بلغ حدّ أنني، حين أسعى إلى إقناع أحد غيري بأن يصدّقه بدوره، أصل دائما إلى الشعور باستحالة ما أحاوله.
استعدت تذكّر تلك الجملة، وأنا أقرأ الصفحات الأولى من نوفيلا عنوانها «لا شيء أسود بالكامل». ليس بما له علاقة بخلود المشهد، بل لأنه يردّ إلى ما يجري حولنا في الحياة، حيث إن ذلك العادي واليومي، غير مبارح لأصل في الحياة قوامه التفكير في الولادة والموت. ذلك الخيط الموصل بين انشغال العائلة بروتينها البيتي وتلقّيها مكالمة هاتفية تقول، إن والد الزوج على وشك الموت، هوّة لا تحتمل. لا يتعلّق ذلك بتساؤل الزوجة، وهي الأكثر حضورا في النوفيلا، إن كان ينبغي لها أن تكون هناك مع زوجها شادي، بل مع انتقال عقلها إلى التفكير بالموت، أو إلى فتحها ذاك الملّف الغامض العسير الفهم. ذلك الذي تبدأ أولى سطوره في بدايات الطفولة مع سؤال الطفلة رفيقتها إن كانت شاهدت (حتى حينه) ميتا أو ميّتة.
إنه عالم الموت والولادة، ومن هذه الأخيرة الإجهاض الموصوف في تلك الصفحات الأولى، أي أن تُكتب الحياة بالمجاورة مع ما هو أصل فيها غير مفهوم. «يا إلهي كم تكره الورد الجوري في الجنوب اللبناني، كم يذكّرها بالعجائز» وتاليا بالموت. هكذا ينقلب ما نحبّ وما نكره ويحلّ أحدهما، حيث ينبغي أن يكون الآخر. الورد الذي ينبغي أن يرمز إلى التفتّح والإحياء، حسبما انطبع في المفهوم الجمالي العام، يتحوّل إلى نقيضه مع وضعه في حجر العجائز. ثم: «أوصيتُ أختي في أول زيارة لاحقة لها إلى باريس بأن تزور مقبرة بير لاشيز، ولم تخيّبني أختي، إذ مشت تحت المطر وتنقّلت في بير لاشيز، وأحضرت لي الصور. كان مشهدا رومانسيا للغاية». وفي المقطع الذي يلي، نقرأ: «ليس الموت داكنا إلى هذا الحدّ، وإلا لما بعثت المقابر، مقرونة بالمطر، كل هذه الرومانسية».
بين بيروت وحمص، وتاليا باريس، تتنقل النوفيلا لكون العائلة مختلطة الانتساب بين المدينتين الأوليين. لا تفاصيل كثيرة عن المدن، بل يكاد وصفها ينحصر بأقل القليل مما يحتاجه التعريف بمدينة. لكن مقابر المدن الثلاث حاضرة بسبب ما يجري من مقاتل وحروب في اثنتين منها، وفي هدأة الموت ورومانسيته في ثالثتها.
أما أبو ليال، فراح يزور قبر ابنته كل يوم. وهو أراد أن يسمع صوتها كل يوم، «صوتها اليوم، صوتها غدا وقد كبرت يوما، صوتها بعد يومين وقد كبرت يومين». لم تسعفه المسجلة التي يديرها إذ يظلّ الصوت الطالع منها على حاله.
في الفصول الأخيرة، الصغيرة دائما، يأتي وصف ذلك الولد حيّا من الكرنتينا، ومن سنة 1958، حيث كانت محطة من محطات الموت، أو القتل. لا ذكر هنا لما يعرِّف أو يفصّل أو يشرح، فقط الزمان والمكان (الكرنتينا) 1958 ليحوم الموت، قبل حدوثه، على ولد في طرف المشهد يلعب بعربة لها ثلاثة دواليب.. «يجلس فيها واضعا قدما إلى جانبه، وبالأخرى يحرّك العربة على الأرض». ثم في نهاية المشهد المنقول متخيّلا من 1958، يطلع صوت يعيد أرشيف الموت إلى تلك السنة، يقول الصوت: «قتلوا أم حسن. قتلوا أمّ حسن ن ن ن».
رغم ذلك، تعنون الكاتبة حكايتها، أو حكاياتها، بـ»لا شيء أسود بالكامل».
صدرت النوفيلا «لا شيء أسود بالكامل» لعزّة طويل عن دار نوفل في 111 صفحة سنة 2024.
*القدس العربي
Leave a Reply