ثلاثة مشاهد، خلال الأيام الأخيرة، لم تستحوذ على اهتمامي، بوصفي كاتبا وحفيا، يراقب تطور الأحداث
في سوريا، بعين مفتوحة عن آخرها، بل إنها تملّكت مشاعري، وروحي، أولاها هو فتح أبواب السجون
والمعتقلات، ليجد المغيبون قسراً أنفسهم أحراراً، يركضون في الشوارع بكل الاتجاهات، والمشهد الثاني،
هو أن المجتمعات المحلية في معظم المناطق، نهضت مجدداً، وتمكنت سلمياً من تحرير مدنها وأريافها، قبل
أن تصل إليها، قوات المعارضة المسلحة. أما المشهد الثالث فهو إسقاط جميع تماثيل الأسد الأب، وفي هذا
تعبير عميق عن انتهاء الحقبة الأسدية، التي حكمت سوريا لـ 55 عاماً، عبر القمع، والقهر، الاعتقال
والتصفية الجسدية تحت التعذيب في السجون.
دون شك، أن الثامن من ديسمبر، هو تتويج لنضال السوريين من أجل الحرية والديمقراطية، لينهي بذلك
مرحلة حكم الحزب الواحد منذ 1963، اتسمت بمصادرة الحريات، وانتهاك غير محدود لحقوق الإنسان،
دون أي التزام بالقوانين الدولية، او الدستور السوري.
كانت حرية التعبير، واحدة من اشد المحرمات التي فرضها النظام الأسدي، حيث كان الخوف يسيطر على
الجميع، فقد استطاعت أجهزة المخابرات، بثّ الرعب بين الناس، وفي مجتمع المثقفين، بشكل خاص، من
أن أي تجمع، او تشكيل الجمعيات والأحزاب، دون موافقة السلطة، سوف يؤدي الى عقوبات شديدة، تصل
الى الإختفاء القسري، دون أمد محدد. وكانت السلطة تراقب الصحافة والمؤسسات الثقافية، وتخضعها
للمراقبة المستمرة، وبذلك منعت أي ممارسة لحرية التعبير. وقامت باعتقال عشرات الكتّاب والصحفيين،
كما اعتقلت الآلاف من السوريين، بسبب آرائهم وافكارهم السياسية، ونشاطهم من اجل الحقوق والحريات،
والديمقراطية. كما اغتالت واعتقلت كتّاباً وصحفيين ونشطاء لبنانيين، وفلسطينيين.
طوال الأيام الماضية، كنت أتابع قضية المعتقلين، وما زلت اعيش لحظة الصدمة الكبيرة والموجعة، وأنا
أشاهد صور السجناء، وهم فاقدي الذاكرة، او معاقي الجسد، أو العقل، نتيجة للتعذيب الوحشي، والسجن
لسنوات طوال.
اتطلع الى نفسي، وأغمض عيني، أنا الناجي من مذابح الأسد، الناجي من التعذيب في السجون. كان يمكن
لي أن أكون أحد هؤلاء الذين تم العثور عليهم في الأقبية المعتمة، ولا أعرف من أنا. او انهم وجدوا جثتي،
في مكان ما، كجثة لسجين مجهول الهوية.
مع فرحتي الكبيرة، بفرار الأسد، أشعر بالحزن الشديد، مايزال عشرات الآلاف من السجناء والمعتقلين
السياسين، مفقودون. لم يتم العثور/ أو تحرير سوى ما يقارب 5 آلاف سجين، من قرابة 160 ألف معتقل،
تم توثيق اختفاءه القسري، إضافة الى مقتل 15 ألف تحت التعذيب.
لقد زرع نظام الأسد سجونا سرية وعلنية، ومقابر جماعية كثيرة، في أمكنة ما تزال مجهولة، كي يحصد
أرواح السوريين طوال نصف قرن، وخاصة منذ انتفاضة السوريين في 2011.
لقد سقط الأسد. في اليوم الأول فرحنا حتى البكاء.
وفي اليوم الثاني، بكينا من فظاعة الإجرام الأسدي في السجون، مع التفاؤل بأن قوات المعارضة المسلحة،
تلتزم بحماية المدنيين، والمحافظة على الأملاك الخاصة والعامة، ولم تحدث أية أخطاء تُذكر!
وفي اليوم الثالث، بدء القلق، يتسرب الى داخلنا، حول مستقبل سوريا. نحن نتطلع الى دولة مدنية
ديمقراطية. والقيادة العسكرية للفصائل المسلحة، يبدو انها تريد فرض عقيدتها وإرادتها على المجتمع
السوري المتعدد والمتنوع. لدينا خوف من ذلك، بسبب تاريخها في القمع، والاعتقال والتعذيب والاخفاء
القسري، ومنع حرية التعبير في المناطق التي تسيطر عليها في شمالي سوريا منذ تأسيس جبهة النصرة
2012.
إذا كان السوريون لا يمكنهم ان ينسوا جرائم النظام الأسدي الرهيبة، فإنهم أيضا لا يمكن أن ينسوا جرائم
القائد العسكري الجديد اليوم ( أبا محمد الجولاني – احمد الشرع)، وجرائم التنظيمات المسلحة، التي طالت
مجتمع الثورة ونشطائها، خلال السنوات الماضية.
لقد قدم السوريون نصف مليون شهيد، وربع مليون معتقل، و12 مليون مهجر ولاجئ، من أجل الحرية. لذا
لن يكون للديكتاتورية، مكان في هذا البلد. نتطلع اليوم الى السلام، والعدالة، قبل كل شئ. ثمة أمل كبير بما
يجري على ارض دمشق، أمل يقود الى ضوء في نهاية النفق، كي يستعيد السوريون بناء الدولة المدنية
الجديدة.
*كاتب سوري مقيم في كندا
*النص العربي، لمقالة الكاتب بالانجليزية في موقع PEN Canada
Leave a Reply