لأنّ الحلم بسوريا آتية، حرّة كريمة ديمقراطية قائمة على دستور عصري مستنير يكفل المواطنة والتعدد والمعتقد ويساوي بين جميع السوريين في الحقوق والواجبات، لم يكن وليد برهة الانتفاضة الشعبية، ربيع 2011، فحسب؛ بل لعله رافق هذه السطور منذ أن امتزج الوعي السياسي بحسّ الضرورة التنظيمية وحافز العمل الميداني، على امتداد نصف قرن ونيّف. اليوم، مع انطواء صفحة نظام الاستبداد والفساد وسلطة آل الأسد الأب والوريث، فإنّ مشاعر الابتهاج العارم بأولى بشائر تجسّد الحلم، والتصميم الصلب على الانخراط الأقصى في أنساق بناء سوريا الجديدة الحرّة كافّة، والتيقظ العالي إزاء ما هو محتمل من مخاطر وعقبات… لا يدانيها، هذه وسواها، إلا أحاسيس الوفاء لذاكرة رفاق وأصدقاء وزملاء سوريين، ليسوا اليوم بيننا كي يفرحوا مثلنا، ومعهم نفرح.
ثلاث جوريات، إذن، باللون الأحمر ومن طراز الوردة الدمشقية Rosa Damascena الشهيرة، أضعها افتراضياً على قبور ثلاثة سوريين أعزاء رحلوا هنا، في المنفى الفرنسي؛ بين عشرات أو مئات ممّن يستحقونها أيضاً، هنا وهناك في منافي السوريين التي امتدت على مشارق الأرض ومغاربها. وأستعيد، في السياق والخلفية، ما انتهى إليه إدوارد سعيد في مقالته اللامعة “ذهنية الشتاء: تأملات حول الحياة في المنفى”، 1984، التي رأت أنّ المنجز الأساسي في الثقافة الحديثة صنعه منفيون أو مهاجرون أو لاجئون؛ وأنّ التفكير في فوائد المنفى، كباعث على الموقف الإنساني والإبداع، أمر لا يعني التقليل من عذابات المنفيّ الكبرى، لأنّها تسبغ الكرامة على شرطٍ كان القصد منه في الأساس الحرمان من الكرامة.
الجورية الأولى على قبر رياض الترك (1930 ــ 2024)، المعارض والقائد السياسي السوري البارز الذي دوّنت محطات حياته سلسلة من الخصائص والخيارات والمواقف والوقائع، أفردته إيجابياً عن الغالبية الساحقة من سجناء الرأي خلال سبعة عقود من تاريخ سوريا الحديث والمعاصر، وتوّجت الحماسة الشعبية العريضة لمنحه لقب “مانديلا سوريا” قياساً على سنوات سجن طويلة ومتعاقبة امتدت نحو ربع قرن. انفرد الترك، إذن، في تعدد فترات الاعتقال على اختلاف الحكومات والحكام والسياسات؛ ومقادير التنكيل والتعذيب والحرمان من الحرية؛ وثباته، الأسطوري الفريد، على مناهضة أنظمة الاستبداد كافة.
“شيخ المعارضين” كان لقباً ثانياً استقرّ في الوجدان الشعبي العريض بوحي من مجموعة اعتبارات معقدة، نابعة من دأب الترك على معارضة الاستبداد أياً كانت طبيعة النظام الحاكم. وهذا نهج ظلّ يتواصل ويتعزز ابتداءً من خمسينيات القرن العشرين، وصولاً إلى اندلاع الانتفاضة الشعبية في سوريا 2011، وحتى اضطرار الترك إلى مغادرة البلد نحو فرنسا عبر تركيا في سنة 2018، ورحيله يوم 1 كانون الثاني (يناير) 2024 في إحدى ضواحي باريس.
الجورية الثانية على قبر جميل حتمل (1956ــ1994)، القاصّ والصحافي والناشط السوري؛ المراسل الثقافي لهذه الصحيفة “القدس العربي”، وعدد من الصحف والدوريات العربية؛ والمشارك الدؤوب في الملتقيات والمؤتمرات الأدبية العربية، إلى جانب شخصيته اليسارية والديمقراطية ومواقفه المعارضة للنظام السوري.
وقبل رحيله، وأثناء نوبة مرض عنيفة أقعدته في مشفى “كوشان” الباريسي طيلة عشرة أيام، تكسرت فيها نصال ونصال على الجسد الهزيل والروح ذات الشقوق الغائرة الفاغرة؛ كتب حتمل ثماني قصص قصيرة للغاية، أطلق عليها تسمية عامة: إنها مجموعة قصص المرض وقصص الجنون. المرض كان أوضح من أن تضيق عنه العبارة، وأما “الجنون” فقد كان ذروة ارتقاء حتمل إلى الإحساس بالحدث، وتحسّس الفعل، وحساسية القول. وهذا طراز خاصّ في الرقيّ الشعوري، يجمع أقصى الهشاشة العاطفية بأقصى الصلابة العقلية، ويقيم توازناً نادراً بين ضرورتين: الشجاعة والبكاء.
الجورية الثالثة على قبر فايز ملص (1940 ــ 2015)، الكاتب والمثقف والمواطن السوري الذي انتمى ــ بامتياز رفيع، كما يجب القول ــ إلى طراز خاصّ من معارضة وطنية وديمقراطية، عريضة وائتلافية، لا تنغلق عند هاجس أيديولوجي واحد (رغم انتماء الراحل إلى فكر يساري وتقدمي لا لبس في خياراته). كان مآلاً طبيعياً، إذن، أنّ تلك المعارضة لم تقتصر على مناهضة نظام الاستبداد والفساد في ميادين السياسة والاجتماع والاقتصاد والثقافة فحسب، بل انفتحت على مفهوم مستقبلي عن سوريا، يُدرج اختلاف الأفكار وتعدد العقائد واتساع الآفاق واغتناء الجماعات.
مآل متمم آخر هو اتساع رؤية ملص الشخصية، أو الذاتية بالأحرى، لأنها انبثقت من أواصر واعتبارات ذات صلة بالذات أيضاً؛ بحيث تصدّرت القضية الفلسطينية مكانة مركزية في جهازَي الوعي والممارسة معاً. في عبارة أخرى، لاح وكأنّ ملص، أسوة بصفوة لامعة من النساء والرجال على شاكلة جيله ذاك، ظلّ معنيّاً بالبرنامج الاجتماعي ــ السياسي عند حركة “فتح” مثلاً، بقدر بحثه عن الثقافي والفكري عند “الجبهة الشعبية” في مثال ثانٍ.
هؤلاء ثلاثة سوريين، يجمع كلّ منهم سلسلة خصال تفترق تارة وتلتقي طوراً، على أكثر من خطّ وخيط وخيار ورأي؛ الأمر الذي يمنحهم، مع ذلك أو ربما بسبب من ذلك تحديداً، امتياز التعبير الفردي والجماعي عن شخصية سورية عليا، يندر أن تنفكّ عن نزوع البناء، ورفض الظلم، ومقارعة الاستبداد، والتطلّع إلى أكثر من فجر واحد ساطع الإشراق وطافح الضياء.
*القدس العربي