دخول يرفع الحشمة:

يدان تدفعان خصاص نافذة ترتطم بالجدار القديم، أتسلل داخل الغرفة، أبدد عتمتها، الضوء والدفء يزحفان معي، رغم أن الغرفة لا تكون مرتبة عادة، إلا أن الفوضى هذه المرة كانت مجنونة.

ما من شيء أو أحد أو غرض في مكانه، فاجأني أيضًا صوت الموسيقى العالي الذي اعتدته يندفع نحو الخارج. كان أخرس.

الفتاة النحيلة التي أحببتها منذ أطلَّت أول مرة، وكان طولها لا يتجاوز الحافة الأدنى للنافذة، تشرئب وقوفًا، تنهض على أطراف أصابع قدميها، تتابع غروبًا يودع الأفق، وأشياء بعيدة يتهيأ لها أنها ستقترب لمجرد أن تناديها.

كنت أتتبع بريقَ دهشتها.. خصلةً من شعرها تطير.. عينيها المدورتين وهي تعض شفتها السفلى.. أرنبةَ أنفها الحمراء.. كانت تراقب النوافذ القريبة، تلوّح للعابرين، تستجدي طفولتها والوقت. حين كبرت قليلاً، لازمتها حركة عصبية تجعل جفنها الأيسر ينتفض كلما حاصرتها المرأة الأخرى التي تكتشف كل شيء بنظرة واحدة..

كانتا تقفان، كديكة المصارعة، متأهبتين في المساحة الضيقة من الغرفة متقاربة الجدران، محاطتين ببعثرة لم توفر حتى الجدران الصفراء الكابية. أميز بينهما شيئًا مثل خيط مشدود يربطهما ويفلتهما في حركة متناقضة. الحقيقة موجودة حتى حين لا نلامسها بأصابع اليقين. أفاجئهما أحيانًا، وقد اشتد النقاش بينهما، تعلو أصواتهما في تشنج وعصبية، وفي مرات أخرى تبدوان غاية في الهدوء والانسجام، رغم ذلك لم أرهما متعانقتين، ربما كانتا تفعلان ذلك في الليل حين يضمهما سرير واحد. من المؤكد أن مزاجًا خاصًا يحكم كلاً منهما، إلا أني لم أتبين ما يجري هذا الصباح..

اليمامة الزرقاء تتنبأ:

الشمس التي دخلت الغرفة أحاطت حدود جسدها النحيل، رسمت ظلها الذي أعرفه بدقة متناهية: جمجمة مدورة، رقبة طويلة “بعيدة مهوى القرط”، كتفان ضامران، انحناء يقوس الخصر، يناقض امتلاء طفيفًا عند وركيها، ساقان طويلتان. أظنني توحمت على زرافة ولقلق في ذات الوقت!

الوقت ليس مناسبًا لأسمعها دعابتي، فالجو متوتر، وهي لم تعد تضحك كما كانت تفعل حين أدغدغ خاصرتيها فتغشى.

مقطبةٌ منهمكةٌ، تلتقط أشياءها بيد واحدة، ترميها في جوف حقيبة تبتلع كل شيء، كأنها دون قعر، يتهيأ لي أنها لن تترك شيئًا يذكرني بها. تتحرك ببطء لم يكن من طباعها. في طفولتها القريبة كانت تقفز وتحجل أكثر مما تمشي، إلى الحد الذي يدفع جارنا العجوز ليدق بعصاه سقف بيته، صارخًا بصوت مرتجف: “يا جيراااان”. كنت أعنفها، وأحيانًا أعاقبها، تعودت أن تطيعني حتى صارت تتعثر بخيالها المنعكس فوق مربعات البلاط الصقيل، أظنها كبرت على تلك الألعاب المفرحة، وها هي ستعلق غيابها على الحائط، وتمضي. يخيل إلي أني فقدتُ زمام السيطرة، لن أستطيع إجبارها على البقاء حتى لو رجوتها، وأظنني لن أفعل، فلست مستعدة لسماع رفضها، ولا لنوبة بكاء جديدة كلما غدرتني المسافة. أعرف أنها ستندم، وأنها ستعود لترخي ضفيرتها فوق حضني، وتنام. وحين ترجع، سأذكرها بنبوءتي التي تتحقق، سأشفق عليها من عبث التجارب، وسأترك لها كل الوقت كي تبكي كما تفعل دائمًا.

النحيلة التي أحبها:

أظن أن القدر يجافيني بقدر وافر وكاف ومزعج، وما من عداوة بيننا، يأخذ حتى (نتفة) الحظ التي ولدت بها، فلا أملك سوى نظرة حسيرة ترتد مهما مددت رقبتي. أحب أن أُحَلِّق، مثلي مثل باقي خلق الله، لكن كلما ارتفعت شبرًا خذلني الجناح، وأرعبتني النشرة الجوية التي تتلوها أمي على مسامعي، هذه المرة أصرُّ على المضي حتى آخر الشوط، ولن أتراجع. أعرف أنها تراهن على خسارتي، وأعرف أنها ستنتصر، فما الذي سيجعل هذه المرة مختلفة، ما دامت تملك بصيرة زرقاء اليمامة،

وتحتكر لنفسها التجربة والخبرة والمنطق الحكيم؟!

رغم اقتناعي بصوابها، إن لم يكن دائمًا.. فغالبًا، إلا أن زهوها يثير الحكة في بدني، يزعجني، يقودني إلى العناد، أواقحها كتيس جامح، مشكلة فظيعة أن تكون على حق دائمًا، وأن تجعل الآخرين مجرد مخطئين يطأطئون أمامك بذنوبهم الصغيرة. إنها تضع العصا في العجلة، والخسارة احتمال قائم في حساباتها الدقيقة، لا مجال للخطأ أو للمغامرة، ربما هذا ما جعله يغادر البيت حاملاً حقيبته الخفيفة ذارعًا طرقات الله دون مأوى. هي السبب.. “أبوكِ طفش” كما قال لي الأطفال الذين كنت ألعب معهم.. منذ ذلك الوقت وأنا لا ألعب معهم، أكتفي بالوقوف عند النافذة، أتوقع، كما تتنبأ هي، رجوع رجل طويل بلحية طويلة يسأل عن عنوان.

أخاف أن يمر ولا أعرفه، فصورته فوق الحائط قديمة، وألوانها الباهتة خطفت ملامحه، أتطلع إليها مليًا، فلا أرى سوى قشور الحائط خلفها.

مجرد ظاهرة صوتية:

لم يبق مني سوى بعض الرائحة العالقة على الجدران المتقاربة، المهندس الذي رسم مخطط هذه الدار لا يعرف كم تحتاج الأحلام إلى مساحة، وإلا لما تجرأ على كل هذه المستطيلات التي تشبه بحجمها زنزانات السجون، ولولا النوافذ التي تطل علينا لجاء الاختناق بأسرع مما فعل لاحقًا..

الرحيل قدري المرسوم مذ خلقت. أحب أن أكتشف نفسي، والأفق مستهل رغبتي. أنطلق إلى المجهول دون سابق تفكير، لم يكن حبها سيئًا، إلا حين أطبق أصابعه فوق رقبتي محاولاً خنقي، وصوابها اللزج أكثر مما تحتمله فوضويتي. أنا الذي أكتب فوق الحائط كل ما أريد تذكره..

“خمسة كيلو مشمش لمؤونة المربى”.. لا يمكن لخطأ مثل هذا أن يجعلها تعزل البيت، تفرك بالصابون والفرشاة الجدران بكاملها. النظافة مرعبة، والأشياء اللامعة تجافي الحياة، تقززني. كل شيء تفعله يجعلني نفورًا، أنا المعتد بإنسانيتي، مزيجٌ من خير وشر، لا أنافس الملائكة، ما دمت لا أملك جناحيها، وقلبي ليس غيمة بيضاء، إذ “لم يكن الله بحاجة للملائكة حين خلق الإنسان”*، ولأن مطري شحيح، تسربتُ من بين أصابعها مثل رمل جاف.

* المقولة للكاتب والناقد السعودي حامد بن عقيل

*من مجموعة” قبلة خرساء, صوت يصعد شجر الحكاية “