يدير إيلان بابيه المركز الأوروبي للدراسات الفلسطينية في جامعة إكستر البريطانية، وهو مؤلف العمل المعروف «التطهير العرقي في فلسطين»؛ منشورات Oneworld، 2007. وكاثرين ناتانيل أستاذة دراسات الجندر في معهد الدراسات العربية والإسلامية، جامعة إكستر أيضاً؛ ومؤلفة «استدامة النزاع: اللامبالاة والهيمنة في إسرائيل ــ فلسطين»، منشورات جامعة كاليفورنيا، 2016. وقد تعاونا في تحرير كتاب «فلسطين في عالم يشتعل»، الذي صدر بالإنكليزية السنة الماضية، ضمن منشورات Haymarket؛ وتضمن حوارات مع جوديث بتلر، نوام شومسكي، أنجيلا دافيز، بول غيلروي، غابور ماتيه، غاياتري شاكرافورتي سبيفاك، يانيس فاروفاكيس؛ ومن العرب مصطفى البرغوثي، نادين العناني، إلياس خوري، ونادرة شلهوب ــ كيفوركيان.
الحوارات، كما يشير المحرران في المقدمة، تسعى إلى استجماع «أصوات رائدة في المقاومة من أجل تسمية ومواجهة ومعالجة الأزمات الكونية مع، وفي، العالم الذي نعيشه»؛ وهي حوارات «تدعونا إلى التأمل في طوارئ المناخ والعنصرية على وجه الأرض والصحة العامة، متقاطعة مع النيو ــ ليبرالية والهجرة وسياسات الحدود». وتشجع على «التفكير بعمق حول الأقواميات الأصلية والآخَرية ونسوية العالم الثالث، بالعلاقة مع الاستعمار والإمبريالية والنزعات القوموية اليمينية». ولا يغفل المحرران حقيقة اضطرارهما إلى مساءلة معنى الحرّية الأكاديمية في سياق واجب ‹الحماية›، وتعريف العداء للسامية كما يعتمده ‹التحالف الدولي لاستذكار الهولوكوست›، والنكبة المتواصلة في فلسطين».
وهذه السطور لا تسترجع الكتاب بهدف الخوض في تلك المسائل الشائكة، وسواها، فليس هذا العمود مقام خيار كهذا، غنيّ عن القول؛ بل الغرض هنا وقفة، وجيزة بدورها، عند بعض فقرات الحوار مع الصديق والزميل الروائي والناقد اللبناني الراحل الياس خوري (1948 ــ 2024). على سبيل سانحة تكريم تحثّ عليها مناسبة أولى، هي الذكرى الـ 50 للحرب الأهلية اللبنانية؛ والتحوّلات المتسارعة في سوريا، البلد الذي ظلّ خوري أحد كبار مناصري انتفاضته الشعبية، منذ انطلاقتها في آذار (مارس) 2011.
والفصل الخاصّ بالحوار مع خوري أداره بابيه في نيويورك، خريف 2022، وتمحور حول أسئلة شتى؛ بدأت من لبنان، ومرّت بفلسطين، ولم تغب عنها سوريا. الحرب الأهلية اللبنانية أعطته وجيله «الفرصة لتقويض اللغة المهيمنة»، وفتح المشهد على ما يسمّيه خوري «كتابة الحاضر»؛ الذي لا يمكن إلا أن يتمثّل الماضي، بما يجعل حرب 1975 مدعاة لاستذكار حرب 1860 في لبنان أيضاً. وحرب القرن التاسع عشر هذه، بين الموارنة والدروز عملياً، تحيل المحاوِر إلى سؤال الطائفية والطوائف بوصفه «تأطيراً استشراقياً اختزالياً وكلاسيكياً» لتاريخ العرب وثقافتهم؛ فهل ثمة طريقة أفضل للنظر إلى «الولاءات المذهبية وهويات الجموع في الخارطة البشرية لموزاييك المشرق»، يسأل بابيه؟
إجابة خوري تذهب إلى سايكس ــ بيكو التي كانت «اتفاقية استعمارية نموذجية»، وإلى مسعى فرنسا في اصطناع خمس دول في سوريا، درزية وعلوية وسنية في دمشق وأخرى في حلب؛ إضافة إلى دولة خامسة سُمّيت لبنان الكبير، رغم أنها كانت «صغيرة جداً»، حسب خوري. وهذه هي وحدها التي بقيت، لأنّ «بنية مذهبية وطائفية وسياسية كانت موجودة على نحو جنينيّ في لبنان، تنامت منذ القرن التاسع عشر». وبهذا المعنى، كان الأدب الروائي اللبناني الذي تناول الحرب الأهلية تحديداً، بمثابة نمط جديد من موضوعات لم يسبق للرواية اللبنانية أن تناولتها على خلفية 1860، من جانب أوّل؛ وكان طبيعياً، من جانب ثانٍ، أن تنطوي سيرورة الجديد على تهديم للقديم، في اللغة والشكل والمناخات.
وذاك تشخيص، سياسي واجتماعي وفنّي في آن معاً، يقود خوري إلى إبداء مزيج من الإعجاب والدهشة إزاء تطورات الرواية السورية المعاصرة خلال سنوات ما بعد انتفاضة 2011، بحيث باتت مركزية في الثقافة السورية؛ الأمر الذي يسري أيضاً على الرواية العراقية في أعقاب الاجتياح الأمريكي، ويستكمل الحال ذاتها التي شهدتها الرواية اللبنانية ما بعد الحرب الأهلية. وتلك برهة خاصة في الحوار، منحت بابيه فرصة طرح أسئلة إضافية محددة حول رواية «باب الشمس»، 1998، سواء على خلفية فلسطينية مركزية، أو خلفيات متشابكة لبنانية وسورية ومشرقية عموماً؛ ولعلها منحت خوري، بدوره، ترخيصاً لإماطة اللثام عن واحد من أكبر أسرار الرواية/ التحفة: أنه كان، في البدء، ينوي كتابتها كقصّة حبّ، و»أقسم على هذا!»، يقول خوري؛ ويتابع: «لم يكن للمخطط الابتدائي صلة بفلسطين، وكان المخطط أنّ يونس يعيش في لبنان، ولديه زوجة في الجليل، ويريد عبور الحدود ليلتقي بها، لأنه كان يحبّها».
ذلك كشف مبهج، في ظنّ هذه السطور، لأنّ ما بدأ كمشروع حكاية عشق وشوق وحنين، سوف يتحوّل على يدَي خوري إلى رواية فلسطين الكبرى، طبقاً ليقين شخصي سبقتْ الاستفاضة في تبيانه ضمن دراسة مطوّلة للرواية. ولعلّ الاعتبار الأوّل خلف هذه النقلة في موضوع الرواية، كان التزام خوري بوضع يونس في سياقات بلده الأمّ فلسطين، وعدم الاكتفاء برواية قصيرة تستغرق كتابتها سنة واحدة، والمضيّ إلى سرد واسع بانورامي يغوص في علاقة الفرد بالزمن والتاريخ، ويستغرق 530 صفحة، احتاجت كتابتها إلى سبع سنوات، باعتراف خوري.
لأنها أيضاً كانت حصيلة أخرى إضافية من بوّابات شموس عديدة، تقاطعت على الدوام في رواية الياس خوري ومسارات حياته.
القدس العربي
Leave a Reply