عزيزتي الثّورة السّوريّة… تحيّة طيّبة وبعد.
بما لكِ وما عليكِ، أصبحتِ فعلَ ماضٍ، والفعلُ المضارعُ السّوري، المُلحُّ والضّروري والهام جدًّا حاليًا، هو كيفيّةُ ترحيلكِ إلى المتاحف. ذلك أنّ المتحف هو مكانكِ المناسب الذي يليق بكِ، وليسَ استمرارَ التدخّل في صيرورة الدولة والمجتمع والإعلام والدراما والسّينما وتنميط وعي النّاس، على طريقة “ثورة 8 آذار” البعثيّة!
حمايتكِ من الثورجيّة القدامى، والجدد (المكوّعين والمكوّعات)، هي مهمّة وطنيّة ديمقراطيّة وأخلاقيّة عاجلة، لئلا يجري استثماركِ من إمّعات التطفّل والانتهازيّة والتسلّق. لا أريدُ لكِ ذلك الوصف “الثورة تأكل أبناءها”، ولا يليق بكِ “الثورة يركبها أبناؤها وأحفادهم وأبناء عمومتهم وأخوالهم، وأبناء جيرانهم”.
بعد مرور أربعة أيّام على سقوط نظام “الأسد ـ البعث” وتحديدًا في 12 ديسمبر 2024، السّاعة 02:35 كتبتُ منشورًا خاطبتكِ فيه، هذا نصّه:
(كلُّ انقلابٍ ليس ثورة، ولكن كلّ ثورةٍ انقلاب. الثّورة على نظام سياسي فاسد مستبدّ قديم، لا تعني التبرُّؤ من كلّ قيم ومفاهيم وأخلاق وأنماط وأنساق تفكير النظام القديم. ذلك أنَّ الثوّار الجُدد، هم أبناء الثوّار القدامى الذين أسّسوا النظام القديم. التاريخ يعطينا الكثير من الأمثلة عن الثورات التي أنتجت طغمًا وطواغيتَ وقادةً استبداديين دمويين نمروديين متفرعنين آبدين.
انقلاب حزب البعث في العراق سنة 1963 على الزعيم عبد الكريم قاسم والفظائع والمجازر التي رافقت ذلك الانقلاب، جرى وصفه بـ”ثورة 8 شباط”، وانقلاب حزب البعث في سوريا سنة 1963 على الحكومة السوريّة، جرى تسميه بـ”ثورة 8 مارس”، وقبلها انقلاب جمال عبد الناصر على الملك فاروق، جرى تسميته بـ”ثورة يوليو” سنة 1952. لن أحدّثكم عن فظائع وجرائم ومجازر الثورة الروسيّة والصينيّة، والكمبوديّة…الخ. وأمامنا حصاد تلك الثورات في تلك البلدان وغيرها.
جرى تصدير تصورّات ومفاهيم ورديّة رومانسيّة عن الثورات في القصائد وروايات وكُتب اليسار، وأنّ الثوار ملائكة طهرانيون مخلّصون، زُهّاد، نًسّاك، وليسوا طلاّب سلطة. لكن منذ نهاية 2010 وبداية 2011 وحتّى اللّحظة، انكشف لنا كثير من الزّيف الذين ظنناه حقائق لا يدانيها الباطل! انكشف لنا أنّ حبّنا للثورات أعمى أعيننا عن بشاعة كوارثها. كنّا نقرأ “إن الثورات أوّل ما تأكل، تأكل أبناءها”، صدّقنا ذلك، ولم نرَه بأمِّ أعيننا. والآن تأكّدَ لنا الأمر.
توقنا للتحرّر من الاستبداد وشغفنا بالحريّة المسلوبة وحقوقنا المصادرة من قبل أنظمة زعمت الثورة والثوريّة، ساهما في تغذية حبّنا للثورة والأوهام والخرافات الرومانسيّة التي أنتجها ذلك الافتنان والحبّ المجنون للثورات.
معذرة أيّتها الثورة، أنا حُرٌّ قبلكِ وبعدكِ. حتّى لو كان لديك دور في منحي حريّتي، إلاّ أنّني ما عدتُ أحبُّكِ كالسابق. لكن، لا أكرهكِ أيضًا. فقط أنا كائن يحبُّ حريّته ويحترمها، ويحاول حمايتها من أيّ شيء يحاول التقليل منها أو تقويضها أو مسَّها بشذر الضّرر، حتّى ولو كانت ثورة.
معذرة أيّتها الثورة، حين حَللتِ بيننا، رحَّبتُ بكِ وقلت: أهلاً وسهلاً. ولا أريدُ أن تبقي جاثمة على صدورنا، تحصين علينا أنفاسنا، تراقبيننا وتحاسبيننا على هفواتنا، وأخطائنا، ونزواتنا…الخ، لذا، أتمنّى لك مغادرةً لا رجعة بعدها إلينا. أريد أن تكوني ضيفةً خفيفةَ الظلّ، بسيطة الإقامة، وسريعة المغادرة. لكنك لست هكذا، مع الأسف.
صحيح أنّكِ تنجبين أناسًا مخلصين ومضحّين فدائيين نبلاء وأشرافًا، لكنكِ تنجبين أضعاف أضعافهم من الإمّعات، الوصوليين، الانتهازيين، الكتبة الأمنجيّة، الشبّيحة، اللصوص، الفاسدين، القتلة وتُجّار الحروب وفُجَّار الشعارات.
ما عدتُ أحبُّكِ أيّها الثورة، ولا أكرهكِ أيضًا. ربّما تعتبرين ذلك؛ أنانيّة. فليكن. ليس عيبًا أن أحبَّ نفسي وحريّتي وحياتي وخصوصيتي، وأرفضُ أن تستبيحها الثورات والثورجيّة!
ما عدت قادرًا على تصديق شعاراتكِ في السعي نحو تحقيق العدالة والمساواة والحريّة والحياة الكريمة. لقد جرّبتكِ نظريًّا في الكتب والخُطَب والتنظيرات، وجرّبتك في الشوارع والمدن؛ قبل وبعد استلامكِ السلطات. لذا، غادري بسرعة، لئلا تتحوّلي إلى ضيفة بشعة ثقيلة متطفّلة غير مرغوب بها. غادري، قبل تَحوّلكِ إلى طاعون أو كوليرا أو سرطان ينهك أجساد المجتمعات والأوطان، ثمّ يودي بها).
انتهى المنشور، وصار من الماضي. وأنتِ أيضًا، أيّتها الثّورة، صرتِ من الماضي. والدول الفاشلة هي التي يتسلّط ماضيها على حاضرها ويُسمّم مستقبلها، ويفخخه بالخرافات والأساطير والأكاذيب التي تتسرّب إلى سرديّات الثّورة.
قريبًا، سنشهد تدفّق الأموال بهدف إعادة الإعمار، وسنشهد اختلاسات كبرى باسمكِ أيّتها الثّورة. سنشهد تكاثر منظمات المجتمع المدني كالفطر، كالأورام السرطانيّة، معطوفًا عليها، سنشهد ازدحامًا شديدًا على طريق تشكيل الأحزاب والكيانات والتحالفات…، والكلّ سيعلن نفسهُ نطاقًا باسمكِ. وكي تبقين على حياد، وترفضين استثماركِ لتحقيق أغراض شخصيّة أو قوميّة أو دينيّة أو مناطقيّة…، عليكِ الحفاظ على حرمتكِ وكرامتك في المتحف.
هذا ليس بيان نعي، أو شهادة وفاة أو تصريح بالدفن لكِ، بل تحيّة تقدير وشكر واحترام لكِ، وحرص على عدم تلويثكِ بترّهات وسخافات “شهوة السلّطة” ودجل وأكاذيب المتسلّطين.
كنتِ ثورةً وطنيّة، لذا عليكِ أن تكوني أوّل الرافضين لتحويلك إلى ثورة دينيّة، طائفيّة. كنتِ ثورة استرداد وطن ومجتمع من طغمة عصابة غاشمة، وعليكِ رفض أن تكوني منصّة أو مقدّمة لإنتاج نسخ كربونيّة من النظام البائد. سوريا الجميلة، كبيرة بتنوّعها القومي، الديني، المذهبي، الثقافي، الفكري، كانت وستبقى كبيرة على أن يحكمها نسق واحد، بفكر واحد، مِن ملّة واحدة، بعقيدة ضيّقة ترى في التنوّع والاختلاف سببًا ومبررًا لموتها. سوريا لم تكن خارج الإسلام حتّى يصار إلى وصف سقوط دولة الأسد بـ”الفتح”. سوريا لم ترتدّ عن الإسلام حتّى يُصار إلى مقارنتكِ بـ”حروب الرِّدَّة” إبّان الخلافة الراشدة!
وبالتالي، عليكِ عدم السّماح بجرّ سوريا إلى الوراء، بل المساهمة في الدفع بها نحو المستقبل اللائق بها وبالسّوريين. وأوّل خطوة لكِ لتحقيق ذلك، هو تَبوُّء مقعدكِ وركنكِ اللائق في المتحف.
سوريا كانت وستبقى “شرق أوسط” مصغّرًا، بكلّ كنوزِ تنوّعه القومي والديني والمذهبي، ومثلما ضاقت ذرعًا بنظام الحزب الواحد والزعيم الواحد الأوحد والعقليّة الواحديّة… وما رافق ذلك من فيض الخرافات والأوهام والأكاذيب عن العروبة والعلمانيّة والمقاومة…، كذلك ستبقى سوريا ضيّقة جدًّا على جماعة قوميّة أو دينيّة أو طائفيّة معيّنة.
الحديث عن الشرعيّة الثوريّة، القوميّة والدينيّة والمذهبيّة، إذا جرى التمادي في الحديث عنها وتكرارها واجترارها، ستُفقِدُ أصحابها الشّرعيّة الوطنيّة. شرعُ الوطن وشرعُ المواطنة الكاملة في الدولة الكاملة المحايدة التي تقف على مسافة واحدة من مكوّنات الشّعب السّوري، هو أساس أيّ شرع سيحكم سوريا. الشرعيّة الوطنيّة لا يصار إلى فرضها، بل تكتسب بمقدار ما تقدّمه من خدمات للمواطن والوطن والدولة والمجتمع.
أتمنّى لك إقامة دائمة وجميلة في المتحف، عزيزتي الثورة السوريّة.
تلفزيون سوريا
Leave a Reply