“السجن هو جامعتي، ففيه عايشت القهر والموت، ورأيت بعض الوجوه النادرة للإنسان، وتعلمت الكثير عن عالمه الداخلي وحيواته المتنوعة، ومارست الاستبطان والتأمل، وقرأت في مجالات متباينة، وفيه أيضًا قررت أن أكون كاتبًا”.
قد تكون الكلمات السابقة من أبلغ ما يمكن أن يشير به كاتب إلى قلب حالته الأدبية، أو أنها إجابة مكثفة ودالة على أي سؤال حول منبع عالمه وتأطير وصفه داخل إطار صغير برّاق، كما هي استهلال جيد لكتاب مهم وقاسٍ وجميل هو كتاب “يوميات الواحات” لصنع الله إبراهيم.
***
في عام 1964 وقف الرئيس عبد الناصر مع عدد من رؤساء الدول لحضور اللحظة التاريخية التي سيتم فيها تغيير مجرى نهر النيل لبدء عمل السد العالي بعد بنائه، وكان من بين الحضور رئيس الوزراء السوفياتي خروتشوف، الذي صاحب مجيئه لحضور الحدث الإفراج عن مجموعة كبيرة من السجناء السياسيين، وذلك بعد تحفظه على زيارة بلد تسجن حكومته الشيوعيين، وكان صنع الله إبراهيم بين المفرج عنهم، بعد نحو خمس سنوات في المعتقل قرر خلالها أن يصبح كاتبًا، بالأحرى بدأ خلالها الكتابة، بين مجموعة من الأقران يندهش الواحد من كونهم اجتمعوا داخل معتقل واحد في الفترة الزمنية نفسها. أنت تتحدث عن أسماء شكلت جانبًا ليس هينًا من تاريخ مصر الثقافي، على سبيل المثال لا الحصر: فؤاد حداد، محمد خليل قاسم، محمود أمين العالم، عبد العظيم أنيس، مجدي نجيب، كمال القلش، محمد عمارة، عبد الحكيم قاسم، سمير عبد الباقي، وغيرهم من أصحاب الشأن الفكري، الثقافي والسياسي.
***
يصور صنع الله إبراهيم في كتابه الفاتن “يوميات الواحات” كيف صاغ مع أقرانه شكلًا موازيًا للحياة بشكل عام، والحياة الثقافية بشكل خاص. كيف يتجاوز الإنسان فكرة التأقلم إلى تحسين الأوضاع الصعبة وتطويعها لخدمة المزاج العام في ذلك الحيز الصغير، ثم إلى صناعة مناخ ثقافي متكامل وثري في حدود شديدة الضيق والبدائية، حيث البدء في إقامة ما يشبه مزرعة صغيرة لتحسين جودة مصادر الطعام، ما يتطلب حفر حوض مياه كبير للري وتبليطه بالحجارة “سيتعلم فيه صنع الله السباحة”، مرورًا باستخدام أبسط وأصعب الأدوات للكتابة، تجلت في تجربة شهيرة يعرفها أغلب المهتمين، كتب خلالها صنع الله يومياته على ورق لف السجائر، وكيف كان يحاول الالتفاف واختراع المبررات لزملائه كي يأخذ دورًا أسبق من دوره في قراءة “ثلاثية نجيب محفوظ” التي دخلت إليهم في المعتقل واعتبروها مددًا ثقافيًا.
هكذا شكلت تجربة المعتقل النشأة الأدبية الأساسية لمشروع صنع الله إبراهيم الأدبي، ليس فقط بكونه بدأ الكتابة معها بداخل مناخ أشبه بالمجتمع الثقافي المتكامل بين أقران مفكرين وشعراء وخلافه، ولكن أيضًا بمدى تأثيرها في عمقه الإنساني، حيث لم يمر الأمر بدون مستوى قاسٍ من الإهانة والقهر الذي يبدو أنه حفر في روح صنع الله سؤالًا مفتوحًا على ما يعنيه حق الإنسان في الحياة.
وربما من أصعب ما مر على صاحب “تلك الرائحة” ما حدث في بدايات اعتقاله، حين كان أحد شاهدين على استشهاد أحد أيقونات النضال الوطني في تاريخ اليسار المصري، وهو شهدي عطية في محبسه، وطُلب منهما أن يشهدا زورًا أمام النيابة. وجد شريكه حلًا فرديًا لعدم الخضوع، بينما يقول صنع الله: “لا أذكر أني مررت في حياتي كلها بلحظة شعرت فيها بالوحدة التامة كما كان شأني آنذاك. وشل الرعب تفكيري وإرادتي وصرت مثل الروبوت المستعد لتنفيذ كل ما يطلب منه”. ويكمل: “أرتني هذه التجربة بشاعة القهر وما يؤدي إليه من إهدار للكرامة الإنسانية. وعلَّمَتني النظر إلى الإنسان ككلٍّ متكامل مؤلَّف من نقاط قوة ونقاط ضعف. واحتل هذا الموضوع مكان الصدارة من تفكيري بعد ذلك فيما تلا ذلك من أحداث”.
***
خرج صنع الله إبراهيم من المعتقل في 1964، وشرع في كتابة روايته الأولى وعرض مخطوطها على يوسف إدريس الذي وجد فيها، بعد بضعة تعديلات، أنها ستكون علامة جديدة في تاريخ الأدب المصري. ويحكي الناقد محمد بدوي أن عنوانها الأول كان “تلك الرائحة النتنة”، بينما نصحه يوسف إدريس بأن يكتفي بـ “تلك الرائحة”، ونشرت الرواية في 1966 أي قبل عام من هزيمة حزيران/ يونيو 1967، لتصور وتسجل روائح ما هو سيء في المحيط العام بعين البطل الخارج لتوه من المعتقل السياسي.
وبينما احتفى يوسف إدريس بالرواية، وكتب مقدمة طبعتها الأولى، تأفف منها يحيى حقي بشدة، وكتب مقالًا شهيرًا صب فيه سخطًا حادًا على العمل وكاتبه، متحفظًا شديد التحفظ على التصوير الحاد واللغة الجارحة التي اعتبرها فجة، خصوصًا في تعامل البطل مع حياته الجنسية.
المدهش في الأمر أن التاريخ الأدبي يضع يحيى حقي بالتحديد في مكانة الأب المباشر لكثير من أدباء الستينيات، ذلك الجيل الأكثر تأثيرًا في الحياة الثقافية المصرية فيما بعد نجيب محفوظ، ولكن على ما يبدو أن لغة الرواية تعارضت مع ذائقة يحيى حقي الذي برغم أنه كان معروفًا عنه انفتاحه على الأدب الجديد وتخليه عن صرامة الفصحى التقليدية، كان يحب اللغة الرائقة الجميلة.
غير أنه على المستوى الفني، وبعيدًا عن خصوصية كل كاتب من أبناء الجيل على حدة، اشتركت “تلك الرائحة” مع كتابات أبناء جيل الستينيات في تجاوز ما سمي بـ “الرواية البلزاكية”، بل إن نجيب محفوظ نفسه كان قد تجاوزها في روايات هذه المرحلة. ذلك أن أبناء هذا الجيل، وعلى المستوى الفني، كانوا تأثروا بأفكار همنغواي، بداية من نصيحته بالـ”كتابة عما تعرفه”، مرورًا باللغة المتسمة بالدقة والجملة القصيرة والابتعاد عن المجاز، فضلًا عن عدم تورط الكاتب في الأحداث عبر الاعتماد على الحياد. وأدت رواية “تلك الرائحة” إلى صدمة لدى النقاد، وهوجمت غير أن التاريخ أثبت بُعد نظر يوسف إدريس الذي تبناها وتنبأ لها بأنها ستكون علامة أدبية، وبالفعل صارت “تلك الرائحة” واحدة من النماذج الدالة، جنبًا إلى جنب مع أبرز أعمال الجيل الأدبية، على النقلة التي حدثت في شكل الكتابة مع أدباء الستينيات.
صودرت الرواية بعد نشرها، حيث ارتأت الدولة فيها كشفًا فاضحًا لمعنى السجن السياسي، قبل أن تصدر منها طبعة أو اثنتان مارس عليها الناشر رقابة ذاتية وحذف منها الكثير، وتبرأ صنع الله من هذه الطبعة قبل أن يعيد نشرها كاملة في ثمانينيات القرن الماضي.
***
في حديث قديم يقول القاص سعيد الكفراوي عن جيله، جيل الستينيات: “كنا نحمل في وعينا حلم تغيير العالم. كانت هزيمة حزيران/ يونيو 67 قد حدثت. وكان بعض أفراد هذا الجيل قد تنبأوا بواقعها قبل أن تقع. كتب صنع الله إبراهيم “تلك الرائحة”، ونشر أمل دنقل قصائد من ديوانه “البكاء بين يدي زرقاء اليمامة”، وأنجز محمد عفيفي مطر قصائد ديوانه “النهر يلبس الأقنعة”، ولقد أوفى هذا الجيل بالعهد، بإبداعه الذي شارك فى خلق ذائقة جديدة واكبت رؤى الإبداع المصري الذي عاش حقب الزعماء، وزمن المعتقلات، والصلح مع العدو، وصعود تيارات الإسلام السياسي، ومشاريع الانفتاح الاقتصادي، ثم هجرة المصريين إلى الخارج، مثلما حدث في الزمن العثماني. وعبر ما حققته نصوص هذا الجيل، وما أبدعه من تخييل، سيظل علامة فارقة في تاريخ الثقافة المصرية”.
***
بعد “تلك الرائحة” توالت أعمال صنع الله إبراهيم الروائية، وسيطرت على معظمها فكرة الرفض، “رفض الصوت الواحد والقمع الجسدي والرمزي والمادي”، بتعبير الناقد محمد بدوي.
وبينما صار صنع الله إبراهيم أحد ألمع الأسماء الأدبية بين كتاب الستينيات، صار على وجه آخر أحد أبرز النماذج البراقة لنوعية الكتاب الذين ارتبطوا “كتابة وفعلًا” بالنشاط السياسي بشكل مباشر، أو فيما يعرف بالمثقف العضوي، إن لم يكن أبرز هذه النماذج في مرحلته الزمنية، حيث الوقوف الدائم وبمنتهى الحدة في مواجهة السلطة، باستثناء فترة قصيرة ناصر فيها الدولة انتصارًا لرفض حكم الإخوان المسلمين نخبويًا وشعبيًا.
وفي اتساق تام مع السمات العامة لمثقفي جيله الذي تلقى تبعات ديكتاتورية عبد الناصر والتعذيب في السجون السياسية، نجده، شأن أقرانه، لا تكتمل ضغينته ضد ناصر، الأمر الذي طالما أدهش الأجيال الأحدث من مثقفين خرجوا من السجون يتحدثون عن مميزات صاحبها، فكما تكلم صنع الله عن القهر والقمع وخلافه، تكلم عن الاستقلال الوطني ومقاومة التبعية للخارج وخطط الدولة وقتها للنهوض الاقتصادي والاجتماعي ورفع مستوى المعيشة والتعليم المجاني والرعاية الصحية وما إلى ذلك.
***
لا يستقيم الكلام عن صنع الله إبراهيم من دون الإشارة إلى واحدة من أشهر وقائع الرفض في تاريخ الثقافة المصرية خلال عشرات السنين، وهي رفضه المزلزل لجائزة ملتقى القاهرة للرواية العربية، الذي أعلنه وسط نحو مائتي كاتب عربي، الموقف الذي يتحدث عنه المهتمون حتى لحظة كتابة هذه السطور مع كل سيرة تأتي باسم صاحب رواية “شرف”، لدرجة أن وزير الثقافة المصري الأسبق فاروق حسني، وحتى وقت قريب، يتحدث عن الواقعة باعتبارها دليلًا على ديمقراطية النظام الذي لم يأت نحو صنع الله بسوء برغم ما قام به، وعلى كونه كان وزيرًا ناجحًا كوسيط بين المثقفين وباقي الدولة.
والمؤكد أن رفض الجائزة في حد ذاته لم يكن ليحدث ذلك الأثر الممتد، لولا ثقل الرجل فضلًا عن الطريقة التي استخدمها قاصدًا إحراج الحكومة.
والكلمات التي ألقاها صنع الله يوم دعوته لتسلم الجائزة، وبلا مبالغة لن تخطئها عين مثقف مصري: “في هذه اللحظة التي نجتمع فيها هنا تجتاح القوات الإسرائيلية ما تبقى من الأراضي الفلسطينية، وتقتل النساء الحوامل والأطفال، وتشرد الآلاف وتنفذ بدقة منهجية واضحة خطة لإبادة الشعب الفلسطيني، لكن العواصم العربية تستقبل زعماء إسرائيل بالأحضان. وعلى بعد خطوات من هنا يقيم السفير الإسرائيلي في طمأنينة. وعلى بعد خطوات أخرى يحتل السفير الأميركي حيًا بأكمله من العاصمة بينما ينتشر جنوده في كل ركن من أركان الوطن الذي كان عربيًا”، معلنًا رفضه جائزة ملتقى القاهرة للرواية العربية من “سُلطة تعمل على قمع الشعب المصري وترهن سياستها الخارجية بإسرائيل وتقبل بوجود السفير الإسرائيلي رغم كل الممارسات الإسرائيلية ضد الشعب الفلسطيني من قمع وسفك للدماء”.
وضعت الواقعة صنع الله لدى الأجيال الأحدث في مكان أيقونة أدباء الرفض والمعارضة السياسية، غير أن الحكاية كانت مربكة لكثيرين، فبعدما ضجت القاعة بالتصفيق، وتضامن مع صنع الله كثيرون من بينهم بعض أعضاء لجنة تحكيم الجائزة، شهدت هواتف الكُتّاب أحاديث جانبية محتارة. تهامس كثير منهم بعبارات لم تُحب طريقة صنع الله في رفض الجائزة، معتبرين أن فيها لمحة من “شو” إعلامي، حيث أوحى الرجل لمهندس الثقافة الرسمية وقتها جابر عصفور، حينما أخبره بالفوز هاتفيًا بأنه يقبل الجائزة، ليقرأ كلماته تحت أضواء الكاميرات، بينما يرى مؤيدو الموقف أنه لم تكن هناك طريقة أخرى يفعلها صنع الله لإعلان موقفه في شكل مدو فيصير للموقف أثر حقيقي وإحراج معلن لنظام مبارك، وقد كان.
وبصراحة، لا أرى منطقًا في استياء البعض من طريقة صنع الله، ورغبته في إحراج النظام إعلاميًا. هنا موقف يتسق مع طبيعة نشأته الثقافية ومشروعه الأدبي، ورجل مرت عليه السنين من دون أن تعبث به المغريات وما أكثرها.
بعد سنوات من رفضه جائزة الدولة، وافق صنع الله على تسلّم جائزة أخرى، عنونها المنظمون بـ”جائزة الشعب”. حكى الأصدقاء وقتها أن المسألة بدأت بمبادرة على “فيسبوك” من الروائي المصري رؤوف مسعد، استجاب لها عدد من الشخصيات العامة والجمعيات الأهلية، وتبنّاها اتحاد كتاب أفريقيا وآسيا وأميركا اللاتينية بالتعاون مع جمعية “أصدقاء أحمد بهاء الدين” ومجموعة من محبي صنع الله إبراهيم برئاسة الطبيب والمثقف المعروف د. محمد أبو الغار. وقال الكاتب المصري محمد سلماوي، رئيس الاتحاد، إنها توازي أكبر جوائز الدولة ماليًا وإن لم يذكر قيمتها المالية. واحتشدت قاعة النيل للآباء الفرنسيسكان، وسط القاهرة، بحضور نوعي للأدباء والسينمائيين والسياسيين في حالة بهجة بدت صادقة. وتهامس كثيرون فيما بينهم حول أن الرجل يستحق شيئًا من الاحتفاء بعد هذا العمر من الصمود على الموقف، وأن هذه جائزة يقدمها مُحبون وقُراء.
نأمل بعودته سالمًا
الآن، يرقد الكاتب الكبير صنع الله إبراهيم في المستشفى بوعكة صحية شديدة، وبينما يتطلب العلاج جراحة دقيقة تتكلف مبلغًا ضخمًا، رفض ورفضت أسرته أية مساعدات من المحبين الذين عرضوا المساعدة، بينما استجابت الأسرة لتدخل مجلس الوزراء الذي استجاب لمناشدات الأصدقاء ومقال وتصريحات صحافية للشاعر والصحافي يحيى وجدي، الذي على علاقة وطيدة بالأسرة، وتم نقله للمستشفى على نفقة الدولة، غير أنه حتى الآن لم يتم حسم إجراء الجراحة المطلوبة.
يظل صنع الله إبراهيم رقمًا كبيرًا في الثقافة العربية، يحاط بالاهتمام والجدل بشرف وقيمة في كل ما يخصه، حين خاض في النشاط السياسي، وحين كتب رواياته المهمة فنيًا وثقافيًا وسياسيًا، وحين أعلن رفضه مرات قولًا وكتابة، وحين كان موضوعيًا في تقييم أنظمة الحكم، وحين ناصر الثورة، وحين مرض، ونأمل في أن يحيط الاهتمام والجدل شفاءه وعودته سالمًا.
ضفة ثالثة
Leave a Reply