يرضي مين؟ يربطوني ويضربوني كدا، هما يقبلوا دا على حريمهم؟

يأتيني صوتها بين النوم والصحو، أحتاج للحظات حتى أدرك أن الصوت ليس آتيًا من حلم، بل من الفراش المقابل لفراشي، أظل ثابتة في مكاني متظاهرة بالنوم، لو حركت جسدي لانتبهت ولن تكمل حكايتها، وددت أن أعرف من قيَّدها ولِمَ، لكنها تستغرق وقتًا في محاولة تذكر عنوان فيلم أرادت أن تُشبِّه ما حدث معها به، فيلم قديم فيه عذب الكفار المسلمين: «هو إحنا في فيلم لا إله إلا الله، ولا محمد رسول الله.. ولا..»

تتوه حكايتها وسط محاولات التذكر، وصوت امرأة على الجانب الآخر يحاول مقاطعتها ومواساتها، لكنها تصر: «مش هسيب حقي»، تتمسك بجملتها الأخيرة، ترددها أكثر من مرة، أمد يدي إلى هاتفي بعد أن أتأكد من ضياع الحكاية، وأنها لن تكملها حتى لو ظللت ساكنة بلا حراك.

في وقت كهذا سأكون ممددة في فراشي، أتقلب يمينًا ويسارًا بلا خوف من أن يمس خدي أو شفتي غطاء الملاءة، الملاءة التي نظر إليها عم محمد نفسه بتأفف حين مر على غرفتنا وسأل مستنكرًا: «ملقوش ملاية غير دي؟»، ثم خرج وعاد من دون أن يجلب غيرها، بل جاء بأربع قفازات زرقاء من تلك التي يرتديها الأطباء، وربط أطراف الملاءة بها فانفردت على الفراش، ثم وضع أسفلها مخدة يبدو عليها الضمور من كثرة الاستناد إليها، طوال مراقبتي له يفعل ذلك كنت أفكر في شيء واحد؛ كيف أبقى نائمة على ظهري طوال الليل، من دون تقلب واحد، كيف أوقف أفكاري وأحلامي ومخاوفي لليلة واحدة!

لا تزال السابعة، أنهت رشا مكالمتها مع المرأة، واتصلت بابنتها، تبدل صوتها الحزين الذي يشعر بالظلم مع المرأة إلى صوت غاضب وعنيف وآمر مع ابنتها، أمرتها أن توقظ أخوتها حتى «يذاكروا»، شتمتهم جميعًا قبل أن تغلق الخط، ساد الصمت، تمددت على الفراش أخيرًا بعد أن كانت تجلس مربعة ساقيها، فعلمت أنه لم يتبق أحد لتهاتفه، كان فراشها يجاور النافذة المفتوحة على السماء، لمحتها تحرك يديها أمام عينيها، بدت وكأنها تلوح لأحد في الأعلى.

أساوم نفسي بين النهوض والبقاء ساكنة، لكني أفكر أنه لم يعد متبقيًا أمامها أحد سواي لتتحدث معه، واليوم لا يزال طويلاً جدًا لنملأه بالحكايات من الآن، أواجه نفسي وأتساءل إن كنت أخشى حقًا ثرثرتها أم أخشى ما قد أراه في المرحاض.


بالأمس أيقظني عم محمد في منتصف الليل ليأخذ مني عينة دم، كانت معه إحدى عشر إنبوبة، أخبرني أنه سيحتاج لملئها جميعًا، ظننته يمزح، ظننت أن الأنابيب ستوزع بيني وبين رشا، لكنه أكد أنها كلها لي وحدي، وعلق مازحًا ومندهشًا: «لو دراكولا مش هياخدوا منه الدم دا كله».

أقطع المسافة بين فراشي والمرحاض أسرع بكثير من نتائج التحاليل التي قد لا يخبروني بها إلا في نهاية اليوم، إذا كان هناك نزيف، فهذا يعني أن حقنة الكورتيزون التي حقنوني بها أمس غير مجدية، وأن المناعة ليست هي سبب ما أنا فيه، وإنما مرض آخر لا يجب أن أذكر اسمه حتى لا يكون فألًا سيئًا.

أتذكر رقم إحدى عشر الذي ظل يلاحقني مؤخرًا كلما نظرت إلى الساعة، كلما جاءتني رسالة؛ لاحظته في أرقام سيارات الأجرة، في الروايات التي أقرأها، رقم انتظاري في المصرف، في شركة الاتصالات، وحتى في المطعم، بحثت عنه كثيرًا ووجدت أنه يعني البدايات الجديدة، تذكرت الإحدى عشر أنبوبة، وتساءلت.. بداية جديدة أم نهاية؟

أحسم قراري وأنهض من الفراش، تتوقف رشا عن تلويحها للسماء وتلوح لي: «صباح الخير»، أجيبها وأدس قدميَّ في الحذاء على الفور حتى لا أمنحها فرصة لبدء الحكي، دماء حمراء وليست بنية في يوم دورتي الحادي عشر، مجرد نقاط ولا تصل إلى درجة النزيف، أطمأن، أود أن أخبرهم في قسم التحاليل ألا يتعبوا أنفسهم، وأني عرفت أن نتيجة كل تحاليلهم سلبية بما في ذلك الإيدز وفيروس سي، وهذا الذي لا يُذكر اسمه، وأن الأمر كله يتعلق بمناعتي، وكأنها استيقظت ذات صباح وقررت أن صفائحي الدموية – التي تجلط الدماء وتوقفها عن النزف إذا ما جُرحت، فتمنع سيلانها خارجي كالماء – جسم غريب عني ويجب مهاجمته.

تعرضت لتلك الهجمة من قبل بعد أن أخذت لقاح أسترازينكا، لم يكن مفهومًا لي وقتها ما علاقة اللقاح بالكدمات الزرقاء الكبيرة والنقاط الحمراء التي تناثرت على جسدي، قلت للأطباء إن هذا حدث بعدما أخذت اللقاح بيومين، لكن لم يكن لدى أحد أي تأكيد لهذه المعلومة، الغريب أني حين دخلت المستشفى أمس قرأت في الأخبار أن شركة أسترازينكا تُقر بهذا العرض النادر للقاحها، بعد ثلاث سنوات تعترف الشركة بتأثير غريب للقاحها على أشخاص وجدوا أنفسهم فجأة ينزفون أو تظهر على أجسامهم بكدمات تبدو كأثر تعنيف دون أن يمسهم أحد، وفي النهاية وبعد كل التحاليل يكتشفون أن التعنيف حدث من داخلهم، وأن مناعتهم هي التي تهاجمهم.

في النهاية، ظلت مناعتي هادئة ثلاث سنوات، تعامل الصفائح بود، فما الجديد الذي جعلها تنقلب عليها وعليّ! أهو الحزن؟ كنت سعيدة على مدى ثلاثة أشهر، لا أصدق أني وجدت أخيرًا ما يسمونه الحب من أول نظرة؛ أسبوع من اللقاءات اليومية، لم يتوقف قلبي عن النبض أو شفتيَّ عن الابتسام، تتدفق الأحاديث بيننا بلا توقف، كل شيء مثالي، المكالمات والرسائل ومشاركة أدق التفاصيل على مدار اليوم تطمأنني بأن الحدود التي تفصل بين دولتينا لن تدعه يُفلت يدي بعد سفره، أكثر شيء يرعبني أن تمسك يد بيدي ثم تفلتها فجأة.

تدفقت هرمونات السعادة في دمي دفعة واحدة، هل انتبهت المناعة لهذه الأجسام الغريبة عليَّ وحين قررت مهاجمتها كانت السعادة قد انسحبت، فارتبكت المناعة واختلط عليها الأمر لم تجد في دمائي شيئًا تهاجمه سوى الصفائح، الشيء الوحيد الذي يضمد الجروح، ألهذا لم يتوقف جرح قلبي حتى الآن؟ لكن إذا كانت المناعة تهاجم جزءًا مني فجأة وتعامله كغريب، فكيف ألوم الغريب حين يقرر بعد أن اقترب أن يعاملني كغريبة فجأة!

كنت منشغلة بعدد المكالمات والرسائل الذي بدأ يقل تدريجيًا، فلم أنتبه للصفائح التي بدأت تتراجع في دمي وتحذرني على شكل كدمات ونقاط حمراء على جسدي، أنظر إليها وأفكر أنها ربما مجرد حبوب، ربما اصطدمتُ بشيء ما، أنكر أنها قد تكون ناتجة عن حزن، فلِمَ أحزن أصلاً؟ الحزن يعني أن اليد أفلتتني فعلاً، يعني الخوف، وأنا سعيدة، أتحاشى أي أفكار تحذرني أن هناك شيئًا خاطئًا، شيئًا يذكرني بكل المرات حين أًفلتت يدي فجأة بلا نهاية واضحة للقصة، أتحاشى كل هذه الذكريات والأفكار، وأترك خيالاتي بلا جماح.

طوال عمري لم أتخيل نفسي أمًا، كنت أندهش من النساء اللاتي يرغبن في الزواج حتى ينجبن، وأتساءل من أين يأتي الشعور بالأمومة، حتى نبت فجأة من مكان ما داخلي مؤخرًا، وكأنه كان موزعًا بالخطأ على امرأة غيري طوال كل هذه السنوات ثم اكتشفت أنه لا يخصها وإنما يخصني أنا فعاد إلي ليلاً وأنا نائمة وفاجئني ذات صباح، صارت عيناي تدمعان كلما رأيتُ طفلاً صغيرًا، وحين التقيته كان أول ما فكرت به كيف سيبدو أطفالي منه.

على مدار الأشهر الماضية كنت أضع يدي على بطني وقت حيضي، وأفكر في اللحظة التي سيملؤني فيها طفل بدلاً من الدماء، ربما تماديت في خيالاتي أكثر من اللازم! اختفاء مفاجىء، نزيف مفاجىء، في الأيام الخمسة الأولى ظننت أنها دماء الدورة الطبيعية، في اليوم السادس ارتبت، وفي السابع شعرت بألم شديد، ولم أرتح إلا حين نزفت دمًا وكتلًا حمراء، لمحت في إحداها عينًا، وفي أخرى شيئًا يُشبه الفم، كان طبيب السونار مندهشًا وهو يضغط على بطني ويقول لي إنه لم يرِ شيئًا كهذا من قبل، دم كثير جدًا لا يزال بالداخل وأنا في يومي السابع! قال لي إني أنزف وسأظل أنزف، وهو لا يفهم كيف يحدث هذا، كنت أعرف أنها الخيالات، لكني لم أخبره، حين خرجت من حجرة السونار ودخلت المرحاض، وجدت كتلة أخرى بها شكل فم، صارا فمين، فكرت أنهما كان من الممكن أن يكونا توأمين.


تسألني رشا عن مكان سكني، تندهش حين أخبرها، تقول لي إنها ظنت بسبب شكلي أني من سكان المعادي أو «الكاومبندات»، وليس هذه المنطقة الشعبية، تأخذ راحتها أكثر في الحديث بعدها، تخبرني عن ظروفها وأولادها الأربعة، تأتي وجبة الإفطار، فلا أجد ما آكله سوى بيضة واحدة يبرز جزء منها خارج قشرتها، أحن للبيت وللبيض الأومليت، أعد أربع بيضات مع المشروم في الصباح، ابتلع البيضة الوحيدة مرغمة، وأمني نفسي بأني اليوم أو غدًا بالكثير سأعود لمنزلي وفراشي وإفطاري الذي أحب وقهوتي، كل هذه الأشياء التي لم أنتبه إلى كونها نعمة إلا في تلك اللحظة التي رأيت فيها جزءًا من البيضة خارج قشرتها.

أعرض عليها باقي وجبة الإفطار، تشكرني وتبتسم وما إن أصل إلى فراشي تقول لي إني لم آكل جيدًا، تعرض عليَّ تناول بيضتها، لكني أخبرها أنها أهم شيء في الوجبة، وأحدثها عن فوائد أكل البيض كل يوم لها ولأولادها، تقاطعني: «البيضة بستة جنيه»، تذكرني جملتها فجأة بمكاني فأصمت.

تعاود الحديث عن أبنائها، ابنها محمد الذي في الرابعة عشر من عمره ولا يستطيع الكلام، ويحتاج إلى دروس تخاطب مكلفة، ثمن الحصة الواحدة تتجاوز المئة جنيه، أفكر في جلسة البوتوكس الشهر الماضي، انشغل في حساب كم جلسة تخاطب كان من الممكن أن يحصل عليها ابنها بثمن تلك الجلسة، أشعر بالضيق والذنب.

كنت في جلسة ليزر حين أقنعتني طبيبة الجلدية بحقن البوتوكس، قالت إن عينيَّ تبدوان متعبتين: «سنفتحها قليلاً فقط»، أردت ألا يبدو شكلي متعبًا حين يأتي الشهر القادم كما وعدني، وافقت، لم تحقن البوتوكس بجوار عينيَّ فحسب، بل أيضًا الجبهة، وبجوار حاجبيَّ، ارتفع حاجب أكثر من آخر، أخبرتني أن هذا طبيعي، وأن الحاجبين سيكونان متساويين بعد أسبوعين، لكنهما ظلا ثابتين، وصرت أبدو مندهشة طوال الوقت.

كنت بحاجة أن أرفع حاجبي أكثر حين أخبرتني أن زوجها تزوج أخرى، لكني اصطدمت بالبوتوكس المحقون في جبهتي، وبقيت في منتصف الدهشة اتساءل كيف لا يملك ثمن علاج ابنه ويتزوج أخرى! «هو سبب مرضي».حكت لي كيف فوجئت بضرتها في عزاء حماها، ظلت ممددة على الفراش بعدها من شدة الصدمة، لم تستطيع تحريك أي جزء من جسدها لمدة ثلاثة أشهر، وحين بدأت تتحرك قليلاً، بدأت العتمة تحل على عينها اليسرى ، مر أسبوعان عليها هنا، تتلقى جرعات من الكورتيزون يوميًا حتى لا تفقد عينها: «بس أنا بتحسن، لما جيتي إمبارح كنت شايفاكي بعيني دي خيال، لكن دلوقتي شايفاكي أحسن».

تلوح بيدها أمام عينيها: «بتحسن والله، هخرج بكرة، مش هقدر أقعد أكتر من كدا هنا، يا رب، عايزة أرجع لولادي».

أفهم سر تلويحها للسماء في الصباح، تُطمئن نفسها كل حين بأنها تتحسن، حين دخلت عليها الغرفة أمس، كان زوجها موجودًا، سلم عليَّ وأخبرني أنه سعيد لأنها ستجد من يؤنسها أخيرًا، فكرت حينها في الونس، كيف بعدما كان هناك من يسألني كل لحظة عما أفعله، ماذا آكل، أشرب، مواعيد ذهابي إلى الصالة الرياضية، والتمرينات التي تمرنتها، أصبحت في مستشفى، ولا يعرف حتى أني مريضة، ابتسمت بالأمس للرجل الذي فرح لأني أونس زوجته، والآن أعرف أنه السبب في قدومها إلى هنا، أفكر أنه لا فرق بين معرفة شهور أو سنين، لا فرق بين نزف شهري، وبين أربعة أولاد، من أين يأتي الأمان؟ أكاد اسألها لكن يأتيها هاتف.

تسب ابنتها لأنها لم توقظ محمد ليذاكر حتى الآن، صرت أحفظ نبراتها المتعددة، حزنها وضعفها حين تتحدث مع أحد لا حول لها ولا قوة أمامه، وغضبها الذي تطلقه على أولادها على شكل زعيق وشتيمة، الوحيدون الذين تستطيع السيطرة عليهم في حياتها.

شعرت بالجوع، فكرت فيما يمكن شرائه من السوبر ماركت ويكون خاليًا من السكر أو النشويات، لا أعرف كيف زاد وزني خلال الأشهر الماضية، أتذكر كلماته وهو يخبرني أنه يحب البدينات، أخذت كلامه على أنه مزح في البداية، كنت أخبره أن حظه أوقعه في فتاة نحيفة، لكني كلما مزحت معه وقلت له إنه إذا خانني يومًا سأقتله، يقول لي إنه أخبرني بمفاتيحه وعليَّ استغلالها، يكرر أن مفتاح قلبه هو النساء البدينات.

أفكر الآن هل أخذ لاوعيي هذا المزاح على محمل الجد؟ هل خفت أن يتركني من أجل امرأة أخرى أكثر امتلاءً مني، وترجمت الأمان بشكل لا واعي إلى تناول المزيد من الطعام؟ ألهذا زاد وزني ستة كيلو خلال ثلاثة أشهر؟ ستة كيلو ثمن أماني الزائف الذي لم أحصل عليه حتى، والآن بت مجبرة على الانتباه لكل ما يدخل فمي، ليس فقط لأن الكورتيزون ينفخ الجسم والوجه والبطن، لكن لأنه يرفع مستوى السكر في الدم، ومن الممكن أن أصاب بالسكري إذا لم أكن واعية لما آكله.

أعاود التفكير فيما يمكنني أكله، أتذكر محفظتي التي لم أفحصها اليوم، تأكدت أن الأموال كلها بداخلها، هناك على الأقل شيء واحد لا يختفي فجأة، بالأمس حين جاءني عم محمد ليسحب عينة الدم كنت أضع حقيبتي بجوار قدمي، سألني إن كان بها أموال، وحين هززت رأسي بالإيجاب، أزاحها إلى جوار خصري: «خليها جمبك آمن»، ابتسم، وأفكر لو أن الشعور بالأمان يأتي بهذه السهولة!

أخبأ الكانيولا أسفل كم السترة، أترك باب المستشفى خلفي، وأدخل السوبر ماركت المقابل، أفتش بعيني في المكان كله، فلا أجد ما يمكنني تناوله سوى بروتين بار واحد بين أكوام من الشوكولاتة، كان يتخفى في غلافه الكئيب البائس ليوحي أنه مختلف عما حوله وأنه خالٍ من السكر، لكني حين ذقته علمت أنه مثل الشوكولاتة، الفرق أنه ليس واضحًا أو صريحًا، أعي أني في بداية انزلاقي في التفكير فيما يحزنني، ولن يقتصر الأمر على مقارنة بين البروتين بار والشوكولاتة، فأشغل ذهني بتأمل الشارع الضيق بين المستشفى والسوبر ماركت.

شارع صغير يفصل الأصحاء عن المرضى، الحياة العادية بتفاصيلها اليومية، والحياة المفاجئة بالمرض والأدوية، الخوف من المستقبل في الخارج والسعي لتأمينه بكل محاولات كسب العيش، يختلف عن الخوف من الغد في الداخل، وتمنٍ للعيش ليوم آخر، تدفئني أشعة الشمس على يدي، أشعر بجمالها وجمال الضوء. أعبر باب المستشفى وأنا أعرف أني سأعود للظلام في الداخل، أفكر كم أن الصحة جميلة جدًا أيضًا وليست مجانية، آخذ قرارًا في تلك اللحظة بأني لن أسلم مناعتي للحزن ثانية أبدًا. لكن من أين يأتي الحزن؟ من التوقعات؟ لن انتظر شيئًا، من الخيالات؟ سأتوقف عنها، نزيف لخمسة أيام أفضل من خيالات أعين وأفواه مخضبة بالدماء، والحب؟ ينقبض قلبي، أعاود التفكير في البروتين بار والشوكولاتة، كل الشركات كاذبة، لو قاسوا لي نسبة السكر الآن لوجدوها مرتفعة، عندما أعود إلى المنزل سيمكنني التحكم فيما آكله، حينها سأخسر كل الوزن الذي اكتسبته، هذا هو قراري الثاني، لا حاجة لي بأمان زائف… أعود إلى المنزل وأدخل الساونا كل يوم حتى يزول البوتوكس أسرع مثلما قرأت على جوجل، سأفعل هذا حتى لو قال البعض إن هذا الأمر غير مُجدي، وأن آثاره لن تضيع قبل ثلاثة إلى أربعة أشهر، لكني سأفعل أي شيء حتى تعود لي ابتسامتي الطبيعية ودهشتي ووجهي.. أعود إلى المنزل فقط و…

«هرجع البيت بكرة، هنخرج سوا، مش هقعد هنا أكتر من كدا»، تقول رشا ثم تلوح بيدها أمام عينيها وتؤكد أنها صارت ترى الآن أفضل من الصباح، وأنها حتمًا ستخرج غدًا، أهز رأسي وأخبرها أنها ستعود إلى منزلها وأولادها غدًا بإذن الله، وأفكر كيف احتملت البقاء هنا أربعة عشر يومًا، أتيت بالأمس فقط وأود الهروب، أساوم أمي وأخوتي في كل اتصال لأخرج على مسؤوليتي، يطلبون مني التحمل قليلاً حتى نتأكد أن وضعي صار آمنًا، وأنني لن أحتاج إلى نقل صفائح دموية، وأنني حتى لو احتجت في أسوأ الظروف ستكون المستشفى مسؤولة عن توفير أكياس الصفائح الدموية، ولن نضطر للركض بين المستشفيات بحثًا عنها  مثلما حدث قبل ثلاث سنوات.

كان كلامهم منطقيًا، لكن الثانية الواحدة هنا تطول لشهور، كنت أنتظر اللحظة التي يأتيني فيها أي طبيب بنتائج التحليلات، ويصف لي جرعة الكورتيزون التي سآخذها، وحينها سأقول إني أود الخروج على مسؤوليتي وننتهي، لكن لم يكن يأتيني سوى ممرضون بأنابيب لسحب عينات، يأخذونها ولا يعودون، لا أحد يعود ليخبرني بأي شيء، حتى في هذا الأمر العلاقة غير متكافئة! ذهب ذهني تلقائيًا لكل المرات التي منحت فيها نفسي أكثر من اللازم، وحين انتهى كل شيء وذهبت السكرة، اكتشفت أني فعليًا لم أكن أحصل على شيء في المقابل، بل كنت أزداد فراغًا من الداخل.

«أخرج من هنا، وأخد حقي منه، أنا يتجوز عليا؟ أنا اترمي في المستشفى زي الكلبة؟ وعيني كانت هتضيع بسببه، والله لاخد حقي منه».

يُخرجني حديث رشا مع أحد أقاربها من أفكاري، أفكر كيف ستأخذ حقها من زوجها وإذا ما قررت الانفصال عنه، انتظر حتى تنهي مكالمتها وأسألها إن كانت تعمل، تخبرني أنها لم تعمل طوال حياتها، لا تستطيع القراءة أو الكتابة، ولا تعرف ماذا يمكنها أن تعمل، تخبرني أنها تريد أن تفتح مشروعًا خاصًا بها، لكنها لا تعرف من أين تأتي بالمال لتبدأ، تحدثت معها في كل الحلول الممكنة، لكنا كنا نعود إلى نفس النقطة؛ ليس بإمكانها أن تعمل في أي شيء، أنهت حديثها بأن كل ما تتمناه في حياتها أن ترى ابنها يتحدث، قالت إنها ستُسمعني صوته حين يستيقظ، وإنه ذكي جدًا، ويستطيع فعل الكثير، لكنهم كانوا يتنمرون عليه في مدرسته القديمة فكان يعود مكتئبًا، وإنها اضطرت لنقله لمدرسة خاصة مصاريفها مرتفعة.

تتوقف عن الحكي حين يرن هاتفها بنغمة مختلفة عن سابقتها «قد الحروف اللي في أسامي العاشقين بحبك»، تجيب فأفهم من حديثها أنه زوجها، تخبره أنه «وَحَشها» وتسأله متى يأتي، أود رفع حاجبي لكن البوتوكس يجعله ثابتًا عند مستوى واحد من الدهشة، أسب البوتوكس واللحظة التي ضعفت فيها ورضخت لتأثيره حتى أكون مثالية أمامه في كل شيء حين يأتي، بعينين غير مرهقتين ومفتوحتين..ثم ماذا؟ تمنيت لو كنت فقط ببصيرة مفتوحة.

تنهي محادثتها مع زوجها، يرن هاتفها بنغمته المعتادة، تتحدث مع فتاة، وتخبرها عن قميص نوم اشترته لـ«البت» مريم، وتطلب منها أن تدخل إلى الغرفة وتفتح الدولاب لتراه: «حتة قميص نوم يا بت ولا قميص نوم ليلى علوي»، تخبرها أنها ستشتري واحدًا لنفسها حين تغادر المستشفى: «يا لهوي على اللي هعمله بيه».

تنقبض بطني، انقباض يشبه هذا الذي يسبق النزيف، لكني أعلم أنه ليس بسبب نقص الصفائح، أندهش من تحول مشاعرها السريع نحو زوجها من الرغبة في الانتقام إلى الرغبة به، من صوت هزيل ضعيف إلى صوت ذي غنج ودلال وضحكات وإيحاءات لا تشير إلى أي انتقام محتمل قادم، أتساءل إذا ما كان هذا من تأثير الكورتيزون! مضى أسبوعان وهي تأخذ منه جرعات عالية، يتدفق المحلول الذي يحويه إليها لمدة أربع ساعات، حتمًا هو تأثيره.. أفكر فيما سيفعله في مزاجي خلال الأشهر القادمة وأشعر بالخوف.

«أنا خايفة على العيال، طول ما أنا هنا لا بيذاكروا ولا بيتنيلوا»، تُخرجني من خوفي إلى خوفها، أطمأنها بأنها ستعود إليهم سالمة، فتؤكد بأنها حتمًا حتمًا حتمًا ستخرج غدًا، ثم تعاود التلويح أمام عينها: «والله بقيت أحسن، أومال باخد الدوا دا ليه؟ أكيد لازم أكون بقيت أحسن».

يأتون لنا بوجبة الغداء، قطعة دجاج وأرز وخضار، أعرض عليها أن تأخذ وجبتي، تُخبرني أن الطعام جميل، أشعر أنها فهمت أني أشعر بالقرف لذلك أعرضه عليها، فأحاول تبرير الأمر بأن أختي ستُحضر لي طعامًا من المنزل، وأكذب عليها بأني لا أحب الدجاج، تفرح حين أناولها الوجبة، تفتح الوجبتين وتأكل بنهم، أفكر كم فرخة تقدر أسرة مثل أسرتها على شرائها في الشهر، يتفعل بداخلي الشعور بالذنب بسبب جلسة البوتوكس.

يدخل الغرفة مجموعة من الأطباء المتدربين وطلبة الامتياز الذين يتابعون الحالات حتى يتعلموا منها، وينقلون ما يقوله الأطباء الكبار، وقفوا أمام فراشي وأخبرتني إحداهن بنتيجة التحليل الذي توقعته قبل مجيئهن؛ الصفائح التي استجابت للكورتيزون، ونقلت لي ما قاله الطبيب وما كنت أعرفه بأني سآخذ لفترة جرعة كورتيزون تقل تدريجيًا مع الوقت، لكنها لم تخبرني بكل ما ستجلبه تلك الجرعة معها من انتفاخ في البطن والوجه وتقلب مزاج دائم، سألتها إن كان بإمكاني الخروج على مسؤوليتي، فقالت لي إنها ستسأل الطبيب ثم تعود إليَّ، شعرت بالضيق، فكل شيء هنا يحدث ببطء، وربما لا تعود لي قبل الغد، وأبقى هنا ليلة أو ليلتين.

تركتني واتجهت هي والأخريات نحو رشا، تركت الطعام في سعادة، كانت تنتظر أن يخبروها بإمكانية خروجها، غادرت الغرفة لأخبر أمي بنتائج التحاليل، حين عدت وجدتها تبكي وتخبرهم أنها تفضل الموت قبل أن تعلق كانيولا في رقبتها، وأنها لن تجلس يومًا إضافيًا في المستشفى، وقفت المتدربات الشابات حائرات أمامها، فهمت من كلام إحداهن أن الكورتيزون لم يأتِ بنتيجة مع حالتها، وأن العلاج الوحيد أمامها هو ما أخبروها به، بكيت: «لا، والله ما أحط كانيولا في رقبتي أبدًا»، صمتن لثوانِ أمام بكائها، حتى قطعت إحداهن الصمت بقولها إنهن سيرجعن للطبيب ثم يعدن لها.

سألتها بعد أن خرجن عما أخبرنها به وأنا أحاول تهدئتها، لكنها ظلت تبكي وتخبرني أنها لن تضع الكانيولا في رقبتها ولو على جثتها، عاودت سؤالها محاولة فهم المشكلة، «قالولي عصب ومش عصب، إيه علاقة عيني الشمال وكانيولا تتركب في رقبتي، دول مش فاهمين حاجة، والله لأخرج، إن شاء الله مشوفش بعيني دي تاني».

أخذت تتصل بأقاربها، وتحكي الأمر من البداية في كل محادثة: «شفتي اللي حصل؟ شفت اللي حصل؟ عايزني أقعد شهر هنا مركبة الكانيولا في رقبتي، والله ما يحصل أبدًا».

تبدلت مشاعري خلال دقائق، بعد أن كنت متضايقة لأني سأعود للكورتيزون، صرت فجأة ممتنة لوجوده، ولأنه له تأثير على صفائحي، وأني لم أسمع تلك الجملة «الكورتيزون مش عامل حاجة».

بين مكالمات عدة، كانت تأتيني كلمات متناثرة تعبر عن انفعالات مختلفة، مرة غضب وقسم بأنها لن تجلس يومًا إضافيًا هنا، ومرة بكاء على حالها ورغبة في الانتقام من زوجها، كررت عبارات الانتقام أكثر من مرة، وكانت تختمها بقولها «بس لما أخرج».

تمددت على الفراش بعد أن أنهت مكالماتها، أردت أن أواسيها، لكنها لم تنظر نحوي، ظلت ناظرة لأعلى نحو السماء، قُرع الباب ودخل زوجها، ابتسم وألقى السلام، رددت السلام لكني لم أبتسم، اتجه نحوها، راقبت رد فعلها، لم تبتسم له، قامت ببطء، قبّل جبينها، فابتسمت لأول مرة منذ أن علمت بالخبر، سألته بعتاب لِمَ لم يُجبها حين اتصلت به، فأشار إلى كيس بلاستيك في يده، وأخبرها أنه كان يشتري لها أشياء، فرحت حين أعطاها الكيس، أخذت تفتحه وتنثر ما بداخله على الفراش في سعادة وهي تقول: «جبتلي دا! أنا بحبه».

أخذت تحكي له ما حدث لكن من دون تهديد بالانتقام، ربت على يديها وأخبرها أنها ستكون بخير، شعرت بالحرج لوجودي معهما، دسست قدميَّ في الحذاء وأخذت هاتفي وغادرت الغرفة متظاهرة بأني أجري محادثة، وقفت على الباب، فسمعتها تخبره أنها احتفظت له بوجبة دجاج، جلست بالقرب من الغرفة، كانت تأتيني ضحكاتهما بين حين وآخر، انتظرت حتى رأيته يغادر الغرفة، ودخلت ثانية، كانت تجلس مربعة على الفراش، وتنظر للأعلى وهي تلوح بيدها أمام عينيها وتقول: «هخرج لجوزي وولادي، إن شاء الله أشوفهم بعين واحدة بس».

*المجلة