ما إن أشرقت في سورية شمس الثامن من كانون الأول/ ديسمبر 2024 حتى بدأت إطلالات قائد قوات ردع العدوان أبو محمد الجولاني الذي سيستعيد اسمه الأصلي أحمد الشرع. وفي تلك الإطلالات المبكرة، قبل أن يصير رئيس الجمهورية بأسابيع، أعلن مرة بعد مرة أنْ لا ثأر ولا انتقام، و أنْ لا قصاص طائفيًا. وقد قال في لقاء تلفزيوني مع قناة العربية: “أما إذا ذهبنا لنبحث عن حق كل ما حصل خلال أربعة عشر عامًا، فهذا سيكرس حالة الانتقام والانتقام المضاد”. وقال الرئيس قبل أن يصبح رئيسًا: “نحن غلّبنا حالة الرحمة”. وقال: “في المعارك الكبرى يتم التنازل عن الانتقام إلا في حالات معينة”. ومن هذه الحالات على سبيل المثال من ألقوا البراميل وارتكبوا المجازر. ولا أنسى هذه القولة الفيصل: “بناء سورية أعظم حق يقدم للمتضررين”.

من بعد، وعلى الرغم من وقوع انتهاكات ذات طابع طائفي في الساحل وفي حمص أيضًا كان الاتجاه الغالب هو ما ترسمه الأقوال السابقة للشرع. وفي الآن نفسه كان حديث العدالة الانتقالية يأتي متلجلجًا، حتى في مؤتمر الحوار الوطني، وصولًا إلى الإعلان الدستوري، حيث كتبت في هذا المقام في (3-3-2025) عن المادة الخاصة بالعدالة الانتقالية: “ماذا لو تساءل المرء عن إغناء هذه المادة بآلية اختيارية للتسامح والمصالحة، كما كان في جنوب أفريقيا مثلًا؟”.

أسرع الصقور الذين تكاثروا خلال الشهور الأربعة الماضية، وبخاصة بعد الجرائم الطائفية الوحشية التي ارتكبت في الساحل السوري، إلى تسعير الخطاب الطائفي وخطاب الانتقام والثأر والقصاص، على النقيض من كل ما افتتح به أحمد الشرع العهد الجديد.

وأسرع سياسي هنا وروائي هناك وإعلامي هنا ومثقفة هناك إلى اللعثمة والتأتأة في إدانة الجرائم والمجازر، بينما ترجّع صوت معاذ الخطيب: “لن تستقر سورية حتى يعيش الإنسان آمنًا، ويكون دم البريء حرامًا مهما كان دينه وطائفته وانتماؤه، وحتى يكون هناك عدل لا ثأر، وقانون لا همجية، ودولة لا غابة”. وتحدث برهان غليون عن تعويض الضحايا من مذاهب مختلفة، وعن واجب الاعتذار للضحايا. كما شدّد في حوار مع جريدة النهار اللبنانية في 24-3-2025 على أن “تطبيق العدالة الانتقالية واجب على السلطة السياسية كائنة من تكون. فلا ينبغي أن نتجاهل أن الناس بشر، وأن روح الانتقام والثأر للملايين من ضحايا النظام القديم الذي امتهن الجريمة في تعامله مع الشعب السوري لإجباره على الاستسلام، موجودة وحية عند جمهور كبير من الناس. وعندما تغيب العدالة القانونية وتحتقن الأجواء، لا يبقى بديل لتفريغها سوى قانون الثأر البدائي، أي خرق القانون”.

العدالة الانتقالية

في الحد القانوني للعدالة الانتقالية أنها باقة من الإجراءات القضائية والسياسية في آن معًا، غايتها تحقيق المصالحة الوطنية، وسُبُلها: التحقيق في جرائم النظام السابق، وتحديد من كان مسؤولًا عن انتهاك حقوق الإنسان، ومعاقبتهم، وكذلك تعويض الضحايا، والعمل من أجل المصالحات الجماعية والفردية. وهكذا يتفرع حديث العدالة الانتقالية إلى شُعَبٍ عديدة، منها تشكيل هيئات مجتمعية، ليست قضائية، لكنها تقوم أيضًا بالتحقيق، وتصدر توصيات. ومن ذلك الحديث أيضا جبر الضرر والتعويض المالي، والتعويض المعنوي بالاعتذار الرسمي وبتخليد ذكرى الضحايا. وثمة من يرسل الترسيمة التالية للعدالة الانتقالية:

المصالحة – المحاسبة – المصالحة.


ربما علينا أن نتذكر ما كان في تونس عام 2011 بعد سقوط نظام زین العابدين بن علي، حيث قامت “هيئة الحقيقة والكرامة”، وعملت لجانها الفرعية ستة أشهر قبل تقديم مسودة مشروع “قانون العدالة الانتقالية”، حيث غدت مؤسسات المجتمع المدني ورشات عمل للتعريف بالعدالة الانتقالية، وتنظيفها من شبهة الانتقام. كما قادت وزارة حقوق الإنسان حوارًا وطنيًا وحملة إعلامية للتعريف بالعدالة الانتقالية. فأين سورية من أقل القليل من ذلك؟

ثمة من يتحدث عن العدالة الانتقامية -عبد الحسين شعبان من العراق- ويعرّفها بعدالة المنتصر، والمتمثلة بالقصاص من أركان النظام المخلوع خارج نطاق القانون، وكذلك بالعقاب السياسي الجماعي. وقريبة من ذلك هي العدالة الانتقائية المتمثلة بالعقاب لدواع دينية أو طائفية أو مصلحية، كأن يشتري مجرم سلامته بالمال والمعلومات، مثلًا.

يتواتر حضور أنموذج رواندا في الحديث السوري عن العدالة الانتقالية، حيث بلغ عدد المتهمين 120000. ويحضرني من ذلك ما سمّى القتلة به ضحاياهم: “الصراصير”. هل تذكرون حديث المخلوع بشار الأسد عن “الجراثيم” وتطهير الجسم، أي الإبادة؟ لماذا لا نسمّي: بشار الرواندي؟ كما يتواتر حضور أنموذج جنوب أفريقيا، ومنه نتذكر لجان العدالة الانتقالية: لجنة الانتهاكات- لجنة جبر الضرر- لجنة العفو.

وتتعدد النماذج، لنؤوب إلى سورية، حيث “تبدو العدالة الانتقالية اليوم بوابة الأمل الوحيدة، إذ لا يطلب من الضحايا أن ينسوا، ولا من الجناة أن يختفوا، بل أن يعترفوا” كما كتب زيدون الزعبي في ملحق سورية الجديدة (8-4-2025). ومما كتب نقرأ أن العدالة الانتقالية “ليست مجرد قانون يُسَنّ، أو محكمة تُقام ، بل هي نداء إنساني عميق لاستعادة التوازن بين الذاكرة والنسيان، بين العقاب والمغفرة، بين الانتقام والمصالحة”.

مع آخرين، أذهب إلى أن ما جرى من حرق وإتلاف الملفات والسجون وفروع الأمن ومقرات الشرطة، أضرّ بالعدالة الانتقالية. كما أذهب إلى أن بيان مؤتمر الحوار الوطني جاء فيما يتعلق بالعدالة الانتقالية أوضح وأشمل وأدقّ مما جاء في المادة 49 من الإعلان الدستوري، حيث قرن البيان بين المحاسبة واستعادة الحقوق… و”ترسيخ مبدأ التعايش السلمي بين جميع مكونات الشعب السوري، ونبذ كافة أشكال العنف والتحريض والانتقام بما يعزز الاستقرار المجتمعي والسلم الأهلي”.

بول ريكور في سورية: الغفران الصعب

يصف جورج زيناتي كتاب أستاذه بول ريكور “الذاكرة، التاريخ، النسيان” بأنه آخر كتاب فلسفي هام صدر في القرن العشرين. وأحسب أن استدعاء هذا الكتاب الضخم الذي ترجمه زيناتي (700 صفحة) لما هو عليه حديث العدالة الانتقالية في سورية، أمر بالغ الضرورة والإفادة.

يميز بول ريكور بين الذاكرة المعاقة جرّاء صدمة، والذاكرة المتلاعب بها، وهي الذاكرة التي يضللها الكذب وقلب الحقائق. أما النوع الأخير من الذاكرة فهي الذاكرة الإلزامية التي تهيمن على مشاعرنا وأفكارنا. وهذه الذواكر الثلاث ليست معزولة عن بعضها. وقد تتداخل، فالذاكرة بحسب ريكور ليست خزانة ولا تخزينًا.

يتحدث بول ريكور عن سياسة الذاكرة العادلة التي تقوم على الاعتراف المتبادل بين الأفراد والجماعات المختلفة، ومن غير هذا الاعتراف المتبادل لا تقوم المصالحة ولا التعايش السلمي. وهنا يأتي ما يسميه ريكور بالذاكرة السردية التي ليست سجلًّا لما كان وانقضى، بل هي تشكيلنا للماضي، وبالذاكرة السردية تتعدد سرديات الماضي.

بتشغيل ما أرسل بول ريكور عن الذاكرة السردية في أحوالنا السورية والعربية، يتبين كم هي مهمة كتابة الرواية عن سورية منذ عام 2011، أو عن الحرب الأهلية اللبنانية منذ عام 1975 -أو عن الحالات المماثلة عربيًا- وفي تاريخ سورية ولبنان. أي كم هي الروايات مهمة لتاريخية العدالة الانتقالية، ولمستقبل بلد مثل سورية ما بعد 8-12-2024. وحسبي هنا أن أشير إلى خطورة الروايات التي تنفخ في الطائفية أو الانتقام على السلم الأهلي وعلى المستقبل.

من العوامل التي تؤدي إلى تهشيش (من هشاشة) الذاكرة، يعدّد ريكور “الزمن”، والانتقائية، والصراع على الذاكرة المتمثل بمحاولة كل طرف فرض روايته عن الماضي.

ومن الأسئلة الهامة التي يطلقها هنا ريكور ما يتعلق بدقة التذكر، وبوجوبه. ويختم كتابه “الذاكرة، التاريخ، النسيان” تحت عنوان “الغفران الصعب”. وفي خاتمته يفلسف الغفران بما يتجاوز النسيان، ويتجاوز التسامح. فالغفران هو إعادة تفسير لما كان، وليس نسيانًا له. ويميز ريكور هنا بين الغفران العابر، أي التسامح السطحي (بوس اللحى، بالعامية)، وبين الغفران المتبادل الذي يتطلب الحوار بين الضحية والجاني من أجل إعادة بناء الثقة بينهما، وهو ما يبدو في حالتنا مستحيلًا، أو يلتبس بنجاة الجاني من العقاب. لكن الغفران ليس كذلك، ولهذا هو الغفران الصعب.

من المعلوم أن الأمم المتحدة أعلنت سنة 1995 سنة التسامح. ومن مفارقات (التقادير) أن اليوم العالمي للتسامح يصادف واحدًا من أسوأ الأيام السورية، أقصد يوم إعلان الأسدية/ الحركة التصحيحية في 16-11-1970، وهو اليوم الذي يصادف أيضًا يوم ميلاد مؤسس الحزب السوري القومي الاجتماعي أنطون سعادة. واستطرادًا أشير إلى أنه ثمة من رأى أن حافظ الأسد اختار عامدًا الإعلان عن حركته التصحيحية يوم ميلاد أنطون سعادة لأسباب عائلية ذات صلة بالحزب العتيد: الحزب السوري القومي الاجتماعي.

لا تعرف الأسدية التسامح، ولا العدالة الانتقالية، ولا الغفران الصعب. وأختم بقول الكاتب حسام أبو حامد في “العربي الجديد” (25-3-2025) بأن “عدالة انتقالية تؤطر المظلوميات الطائفية حقوقيًا، تمنح فرصًا حقيقية للحيلولة دون بقائها هويات سياسية تهدد السلم الأهلي، والاستقرار الإقليمي. أما تأجيلها فإمعان في تبنّيها”. وكان أبو حامد قد كتب في المقام نفسه في 18-3-2025 أنه “كان المأمول إرساء آليات عدالة انتقالية تركّز في المساءلة الفردية لا الجماعية، فتمنع شيطنة شرائح اجتماعية بكاملها”، وقد كشفت مجازر الساحل “الثمن الباهظ للتباطؤ في السير نحو العدالة الانتقالية”.

*ضفة ثالثة