على قلقٍ كأنّ الريح تحتي.

كأن المتنبي لم يكن نبيًّا بما ادّعى، بل بما رأى، وما سكنه من فوضى وبصيرة.

أتلبّس عبارته كما يتلبّسني الخوف، وأردد كلمات الماغوط: “الخوف كالله لا يمكن تفسيره” أمشي في هذا العالم، لا أعرف إن كنت أبحث عن شيء أم عن رائحة.

قلقٌ مزمن يتنقّل في دمي كظلّ عاشقٍ لا يبرح الباب. أحمله مذ وُلدتُ على أرض كلّما غفَت أيقظتها الحرب، وكلما ضحكت قليلاً جفَّ ريقها من الخوف. أشعر أحيانًا كأنني علَّاقة ثيابٍ في عاصفة، أو ظلّ فراشةٍ تتخبط بين نصلين.

أنا امرأة لم تحمل حقيبة “شانيل”، ولا تتقن لعبة الكؤوس العالية على أرصفة المدن الباردة. أنا ابنة الريف؛ تربّت أناملي على حرارة الخبز، وركضت خلف دجاجةٍ تبيض، وأمسكت بالماء قبل أن يتبخّر من الطين.

غفوتُ في حضن جدّةٍ تشعل التنّور قبل أن تفتح عينيها، وتعلّمت الأبجدية من همس النعناع حين يُفرك، من وشوشة الحبق البريّ، من صوت الحليب وهو يتدفّق من صدور نساءٍ عدن توا من الحصاد لا يعرفن الخوف والعيون المتربصة، حين يخرجن أثداءهنّ ليرضعن صغارهنّ دون وجل او مداراة

لا أرستقراطية في دمي، ولا برجوازية في ذاكرتي. كلّ ما أحمله من طفولتي هو رائحة التنور ساعة يفتح فمه للحياة، رائحة النعناع المنفلت صباحا ومساء كحنينٍ قديم، رائحة الحبق البريّ الذي يشبه عيني أمي، ورائحة التراب بعد المطر… ترابٌ لا يشبه أي تراب، كأن الله تنفّس فيه.

هذه الروائح هي أنا. قلقي يبدأ حين تختفي، حين يقترب من جلدي رائحة الكذب أو رائحة الخديعة أو هشاشة الأرواح. في غربتي، في هذه الصحراء المتمدنة أبحث عن رائحة تعيد توازني.

في مولٍ ضخم، التقيت صدفةً بعطر J’adore.

تخيّلتني كمن كان على موعد مع عشقٍ قديم، مع ذاكرة حبٍّ من حياةٍ سابقة. خدش هذا العطر تراب إنسانيتي، نام في سرير لذّتي، تسرّب إلى أنفي كما يتسرّب الحنين من كفّ أمّي. شعرت أنني أطير فوق الخراب، لا هروبًا منه، بل لأرتّق به ثقوب روحي.

كأنّ هذا العطر قال لي: “لا بأس، تعالي نرقص خفية، أنا في دمك… وسأقفز بكِ إلى السماء رغم الدمار.”

لاحظت عائلتي بعد احداث الساحل والسويداء أنني لا أنام. القلق توسّد أيامي كوحش، وفرش مزاجي ككلبٍ أسود، بدأ تحت عيني، وامتدّ إلى مفاصلي.

سألت نفسي: هل ستتفكّك سوريا؟

هل سيبقى الموت يتربّص بنا من جنوبها المرتجف كقلب أمّ؟

هذا الوطن الذي صار موقعًا لتفريغ العفن الطائفي، والخطاب الرديء، والتخوين المتبادل… أين أضع قلبي فيه؟

اجتمعت عائلتي كمن يحاول ترميم خراب، وأهدوني قارورة J’adore. تخيّلوا! عطرٌ بدل دواء اكتئاب. قارورة صغيرة بدل وطن.

لكنّها فعلت بي ما لم تفعله المهدئات.

فتحتها كمن يفتح بابًا سريًا في روحه، وضعت قطرة خلف أذني، وترنّحت في سُكرٍ حلال. في كلّ مرّة أفتحها، أشعر أن سوريا تعود إليّ. لا كما أرادتها الخطابات، بل كما كانت: في دفء حليب الصباح، وصوت نايٍ بعيد، وخبزٍ ينضج على نار الحطب.

أمس، رُفعت العقوبات عن سوريا.

بتّ أخاف أن أفرح كثيرًا.

تعطّرت ومشيت. صادفت وجه شهيد أعرف أمه. وحيدها.

كنت أخاف من لقائها، من التمعّن في ملامحه، من هيبته.

أعود ليلاً لأتفقّد وجه ابني النائم، أطمئن أن صدره يعلو وينخفض، وأقول في داخلي: سامحيني يا أمّه، سامحيني لأنني ما زلت أملك هذا الخوف، وهذا الابن.

تمنيت أن يتحدّث الرئيس، أن يقول ما يداوي أرواحنا، أن يعلن محاسبة القطعان المنفلتة، أن يجرّم الخطاب الطائفي، أن يعيدنا إلى الحلم… لا إلى الخوف.

أنا لست سياسية. أنا ابنة حبق.

قلبي حقيبة، ودمي قارورة عطر.

أخاف أن أمشي على حبل السيرك السوري الطويل، فتسقط مني القارورة قبل أن نصل إلى البيت.

والبيت؟ صار أمنية. صار قصيدة. صار ظلًّا على جدار القلب.

سوريا… يا قارورتي العتيقة، يا عطري الأبدي، يا أنفي حين يشمّ الحياة…

أريدك أن تفتحي مسام روحي، أن توقظيني، أن تقوليني شعرًا لا شعارات، أن تحتضنيني لا تعذبيني.

سوريا… لا تسقطي من يدي.

لأني إن خسرتك، خسرت عطري الأخير.

وما من امرأة تُشفى بعد أن تفقد عطرها.

*العربي الجديد