لا مجال لنفي إشكالية السرد حين يكون تسجيليا، نظرا لاختلاطه بالسرد الواقعي والسرد السيري والسرد التاريخي. وهو اختلاط ناجم عن طبيعة توظيف الزمان، الذي معه تتغير وظيفة السارد وأغراضه؛ فهو لا يريد رصد الواقع الفوقي أو التحتي. ولا يسعى إلى الكشف عن خبايا السنين التي مضت من حياة فرد معين، ولا يهمه إن كان التاريخ قد أَرشف ما هو رسمي أو شخصي، إنما الذي يهمُّ السارد هو الزمان نفسه بكل اشتباكاته الواقعية واشتغالاته التاريخية وتوقيتاته الفيزيقية، غير آبه إن كان في هذا الاشتباك ما يشتت الحبكة، أو يوسِّع نطاق الحكاية، فتغدو الإخبارية والتقريرية سمتين من سمات الرواية التسجيلية.
واكتراث السارد بالزمان عنصر رئيسي يجعل الأحداث ـ بكل ما تتضمنه وتشتمل عليه من حكايات وأخبار ووثائق – تتداعى تداعيا ذاتيا وما من ضابط سببي لها سوى التتابع الذي يترى بلا تسلسل منطقي. ولا يعني هذا التشتت في تنظيم الأحداث والشخصيات أن لا وجود للسارد، أو أنه بلا فاعلية ومنتفي الأهمية، وإنما السارد حاضر، سواء في صورة موضوعية هي غير صورته، عليما أو مقتحما، أو في صورة ذاتية هي غير صورته بطلا أو مشاركا. وما بين الموضوعية والذاتية يكون السارد مؤديا دوره في بناء منظورات سردية، تتجاوز الأيديولوجية والتعبيرية والزمكانية والنفسية، إلى ما يمكن أن يوصف بالأخلاقية التي فيها يكون السارد مراقِبا؛ فهو يريد جمع أساسيات الواقعة وتشرذماتها، كي يضعها أمام القارئ مثلما وَقعت أو وُثِقت، أي بلا رتوش أو تلاعبات ليقوم هذا القارئ بدوره بالحكم عليها حكما ينطلق من وازع أخلاقي.
ويعود مصطلح السارد المراقِب الى الأمريكية كاترا أ. بيرام، وفيه دمجت الثقافي بالتاريخي، وأفادت في اجتراحه من تعريف فرانز ستانزل للسارد بأنه شكل «وسيط» يكون فيه «شاهدا غير متورط نسبيا في الأحداث»، كما استندت إلى تنظيرات جيمس فيلان حول السارد الذاتي، وأضافت له صفة المراقبة الدينامية التي توحي بأن هذا السارد ليس هو البطل، وفي الوقت نفسه هو محور السرد أي يحتل موقعا مركزيا، متبنيا المنظور الأخلاقي. وتتضح هذه المركزية في بنية النصوص وما يجمعه السارد من وثائق، مؤديا دوره في تصعيد الحكاية وتوجيه القراء باتجاه التفسير والحكم الأخلاقي، أي أن السارد هو من يصنع المسارات ويعطي القراء لمحات عن الشخصيات وعوالمها وهوياتها، وأحيانا يشارك في سيناريوهات الأحداث التي يرويها من الماضي، أو التي ينقلها من الحاضر كما يخبره البطل بها، أو كما يعيشها هو. وعلى الرغم من مركزية السارد المراقِب، فإنه غير مستقر وعلاقاته إشكالية مع الأحداث والشخصيات والبيئة الاجتماعية.
وترى بيرام أن المراقبة تجري على مستويين: الأول أن يقدم لكل نص/ وثيقة بتعليق اجتماعي أو تاريخي، والمستوى الآخر أن يعكس كل نص/ وثيقة دور السارد في مراقبة الشخصيات والسراد والمؤلفين. ويشجع أداء السارد لهذين المستويين القراء على التأمل والإدراك ويدعوهم في الوقت نفسه إلى إصدار حكم القيمة على الأطر التفسيرية وتقدير الآثار الأخلاقية، تجاه ما يضعه أمامهم السارد المراقِب من قصص. وحسب بيرام، فإن السارد المراقِب مؤرخ، يروي ما كان قد سمعه، أو عَثر عليه من مخطوطات ورسائل قديمة، ويتميز بتنقلاته ما بين الماضي والحاضر بشكل يؤثر في القراء ويجعلهم قادرين على تتبع سياق السرد بشكل مترابط وتقدمي، مدركين علاقة الماضي بالحاضر ومتهيئين لأن يصدروا حكما قيميا على رواية ليس في ختامها ما يوحي بنهايتها.

ولا يعيد السارد المراقِب بناء أحداث الواقعة، ولا هو يتقيد بمنظور أحادي أو متعدد، والسبب أن اهتمامه في الأساس مركّز على استكشاف إشكالية التعاطي مع الماضي والحاضر، من زاوية تضارب أطرهما وتفاعلاتهما وتتبع نموهما في الزمن الفيزيقي بالساعة واليوم والشهر والسنة. ولا تكون المراقبة حاصلة من دون أن يكون المراقِب متحركا، حسب توقيتات فيزيقية، وأي هفوة أو غفلة عن ملاحقتها تعني خللا في ما يسعى السارد إلى مراقبته وتقييد تحركاته. والمراقبة إن كانت عن كثب، فإن السارد حينها يكون مراقِبا ذاتيا بوصفه مشارِكا، وإن كانت المراقبة عن بعد، فإنه يكون مراقِبا موضوعيا بوصفه ناقِلا أو مراسِلا. وتبني السارد المراقِب للمنظور الأخلاقي هو ما يجعله حيويا وهو يواجه الماضي حينا، ويتجه صوب الحاضر حينا آخر. ولا شك في أن أوسبنسكي حين وضع المنظورات الأربعة كان بصدد السرد الواقعي، كما أن هايدن وايت حين حدد وجهة النظر الأيديولوجية كان بصدد المتخيل التاريخي. أما السرد التسجيلي ففيه يكون المنظور أخلاقيا، ومن ثم لا مشكلة إن تغلب الزمان وتضعضعت الحبكة، كما لا فوضوية إن توسط السارد بين الحياد والانحياز والعموم والشخصانية والسردية والميتاسردية. وهذا ما يجعل التوفيق بين متعارضات الأحداث في ماضيها وحاضرها أمراً يصعب تفسيره سوى من الناحية الأخلاقية التي تتجلى في حيوية السارد المراقِب وهو يرصد التعارضات والتوترات والصراعات التي تحرك الأحداث وتوجه الشخصيات. وبهذا الدور الذي يؤديه هذا السارد تكون الرواية التسجيلية متضمنة الشهادة. صحيح أن كلا من السارد المراقِب والسارد الشاهِد هو مركزي، غير أن مركزية الأول تكمن في كونه ليس بطلا بعكس مركزية الثاني المتأتية من كونه بطلا. بمعنى أن الشاهد يسرد قصة ذاته في شبابها والحاضرة هي الآن في زمانها، بينما يحكي السارد المراقِب قصة البطل الذي كان في زمن ماض، وهو الآن غير حاضر فيه.

وتذهب أغلب التوجهات النقدية، بدءا من الشكلانيين مرورا بالنقاد الجدد والنقاد البنيويين إلى أن السيرة الغيرية التي فيها السارد يروي قصة شخص آخر هي من نوع الأدب الشخصي، وفيه السارد ذاتي، لكن ليس هو البطل. وهدف السارد المراقِب هو هذا الحكم القيمي الذي يصدره القراء؛ إذ فيه تتجلى الحقيقة التي بها يُحاكم الواقعي والتاريخي أي الحاضر والماضي محاكمة أخلاقية. وبهذا الشكل تتأكد إشكالية السرد التسجيلي بسبب ما فيه من شخصيات ماضية وحاضرة وعلاقات مضطربة. ذلك أن الزمان هو الفيصل في عملية تسجيلها ماضيا وحاضرا وعلى مستويي الشكل والمضمون.
وترى بيرام أن وظيفة السارد المراقب هي، البحث عن الهوية بمعنى أن الإنسان يفكر في نفسه فيتساءل: كيف أتى إلى مكان هنا أو هناك، وكيف أصبح ما هو عليه اليوم؟ ولكن هذه ليست وحدها هي وظيفة السارد المراقِب، بل هي في الجوهر تكمن في السردية التي تبحث في كيفية تغير الحالات والهويات بمرور الزمن، وتستكشف كيف يوظف البشر السرد لفهم هذا التغير أو التحفيز عليه أو التأثير فيه. من هنا يكون السرد التسجيلي في تعامله مع الماضي ذا شكل تاريخي في حين يكسبه تعامله مع الحاضر شكلا واقعيا، ولكن السارد المراقِب يظل واحدا في الشكلين معا. وهذا ما يجعل القراء يثقون بهذا السارد في رواية الماضي والحديث عن الحاضر؛ فهو ليس مؤدلجا ولا شاهدا، إنما هو مراقب يتحمل وزر مراقبته بكل ما فيها من أعباء وعواقب غير مأمونة على المدى القريب أو البعيد، إذ يتعين عليه أن يدرك الإطار العام فيتحدث لا بلغته الخاصة، بل بلغة الأحداث والشخصيات، محاولا العثور على أفق خاص ضمن أفق شخص آخر. وهذا على العكس تماما من « الحوارية الباختينية»، التي فيها تتداخل الأصوات فيكون السارد محايدا تجاه تعدد الأصوات وتنوع الرؤى ووجهات النظر. أما السارد المراقِب فلا يكون محايدا لأنه يلتقط تفاصيل الأحداث ويريد من القراء أن يربطوا بينها، ويتعرفوا إلى الشروط الاجتماعية التي أنتجتها ويحددوا من ثم وجهات نظر أصحابها، ويصدروا في النهاية حكما أخلاقيا معينا.

*القدس العربي