“من يحرر يقرر” مقولة أطلقها شاعر من بلادي، وفرح بها، واعتبرها فتحًا يوازي فتح من حرروا.. وانساق وراءها عامة الناس دون أدنى محاولة للنظر فيها، وانتشرت حتى باتت من العبارات المتداولة، وصار كل من يريد منهم أن يدلي بدلوه في أي شيء يتعلق بسياسات الإدارة الجديدة يعلق بهذه العبارة؛ سواء كان مضمون المنشورات مدحًا أو نقدًا أو ذمًا أو مجرد إشاعة!
لا شك أن مقولة “من يحرر يقرر” تحمل بعض الحقائق السياسية والتاريخية؛ ولكنها في الوقت نفسه تثير العديد من التساؤلات حول العدالة والشرعية في اتخاذ القرارات بعد التحرير.
ولا شك أن من يقود عملية التحرير عادةً ما يُعتبر صاحب اليد العليا في تحديد مصير البلاد.
ومع ذلك، هناك عدة جوانب يجب النظر فيها نقديًا لتحليل مدى دقة وعدالة هذه المقولة.
1. خطر احتكار السلطة:
من أبرز النقاط التي تثيرها المقولة هي فكرة احتكار السلطة بيد المحرر.
إن الادعاء بأن من يحرر يقرر قد يؤدي إلى استبداد واحتكار اتخاذ القرارات؛ فبعد تحرير البلاد من الاحتلال أو الاستبداد قد يعتقد المحررون أنهم الأحق بتحديد مسار الدولة دون التشاور مع الشعب.
إذا تم التركيز على “من يحرر” كفئة أو فرد وحيد يمتلك الحق في اتخاذ القرارات المصيرية؛ سنجد أن هذا يتناقض مع مبادئ الديمقراطية والمشاركة الشعبية التي يجب أن تكون هي الأساس في تشكيل مستقبل أي بلد.
2. تجاهل التنوع والتعددية:
التحرير ليس فعلًا واحدًا متجانسًا؛ بل هو مجموعة من الآمال والاتجاهات المختلفة التي تجتمع لتحقيق هدف مشترك.
ولكن بعد التحرير، قد تكون هناك تيارات متعددة داخل المجتمع تطمح إلى رؤية مختلفة لمستقبل البلاد. فإذا ما ترك القرار في يد “المحرر” فقط، ربما يتم إقصاء أصوات وأفكار أخرى كانت جزءًا من النضال الوطني، وهذا يؤدي إلى تكريس حالة من التفرد بالرأي وتهميش التنوع الفكري والسياسي داخل المجتمع.
3. غياب الشرعية الديمقراطية:
الشرعية التي يكتسبها “المحرر” بعد التحرير قد تكون نابعة من المقاومة والشجاعة في مواجهة الاحتلال أو الاستبداد؛ لكنها ليست بالضرورة كافية لتبرير السلطة المطلقة في تقرير مصير البلاد.
في النظام الديمقراطي، السلطة يجب أن تكون مستمدة من الشعب، ويجب أن يكون هناك آليات لضمان تمثيل مختلف فئات الشعب في صنع القرار، وليس من حق فرد أو مجموعة معينة السيطرة على هذا القرار.
هنا يظهر الافتقار إلى مفهوم “الشرعية الديمقراطية” التي تتيح للشعب الفرصة للتعبير عن إرادته في اختيار مستقبل بلاده.
4. التحديات بعد التحرير:
التحرير ليس نهاية الطريق، بل بداية مرحلة جديدة مليئة بالتحديات.
قد يواجه المحررون صعوبة في اتخاذ القرارات الصائبة بشأن هيكلة النظام السياسي، ووضع الدستور، وتوزيع السلطة.
إن تحويل التحرك الثوري إلى سياسات عملية يتطلب درجة عالية من التعاون والشفافية، فضلاً عن القدرة على بناء مؤسسات سياسية قوية ومستدامة.
مقولة “من يحرر يقرر” قد تساهم في استدامة حالة من الفوضى السياسية إذا لم يتم النظر إلى “التحرير” كجزء من عملية مستمرة من البناء الوطني الجماعي.
5. التلاعب بالمفاهيم:
قد تُستخدم هذه المقولة أحيانًا كأداة لتبرير قرارات قمعية أو سلطوية تحت شعار “التحرير”، والتاريخ مليء بالأمثلة التي استخدم فيها قادة التحرير سلطاتهم بشكل تعسفي بعد الاستقلال، مدعين أنهم الأقدر على تحديد المسار الصحيح للبلاد.
هذا التلاعب بالمفاهيم يؤدي إلى تقليص الفرص لتأسيس نظام ديمقراطي حقيقي يتم فيه احترام حقوق الإنسان وحريات الأفراد.
إن مقولة “من يحرر يقرر” قد تكون صحيحة في سياقات معينة؛ لكنها بحاجة إلى مراجعة نقدية شديدة؛ لأنها قد تؤدي إلى تركيز السلطة في يد قلة، مما يهدد الاستقرار السياسي والاجتماعي.
التحرير ليس تغييرًا في القوى المسيطرة على الأرض وحسب؛ بل هو دعوة لإعادة بناء المؤسسات السياسية والاجتماعية بطريقة ديمقراطية تشاركية؛ تضمن أن تكون القرارات مصحوبة برؤى متعددة ومن خلال آليات توافقية.
في النهاية..
التحرير الحقيقي هو الذي يتيح للشعب الفرصة لتقرير مصيره بحرية وعدالة؛ بعيدًا عن فرض رؤى فردية أو سلطوية.
Leave a Reply