عندما تنقشع غمامة الحرب، ويصدح صوت الحق فوق الأنقاض، تشعر الأرض وكأنها تتنفس من جديد، ويُولد الفجر بألوان لم تعرفها السماء من قبل.

فرحنا بطلوع الفجر بعد ليل طال لا ينبغي أن ينسينا أن معركة التحرير ليست مجرد انتصار يُكتب في صفحات التاريخ، بل هي بداية عهد جديد، واختبار حقيقي للمنتصر في المحافظة على نصره؛ بأن يعي أولا أن مهمته لا تنتهِي عند رفع العلم؛ بل تبدأ من تلك اللحظة، حين يتوجب عليه أن يوازن بين فرحة النصر وعبء المسؤولية.

عندما يهتف الناس باسمك، تذكر أنك لم تكن وحدك.
هناك من ضحوا بحياتهم كي تصلك الراية، وهناك من حلموا بهذا اليوم ولم يسعفهم العمر ليشهدوه.

فليكن التواضع هو درعك أمام فتنة القوة، وهو مفتاحك للحفاظ على محبة الناس وإيمانهم بعدالة قضيتك.

إن التحرير لا يعني إسكات السلاح فقط، بل يعني بناء ما تهدم، وإعادة الروح إلى جسد الوطن الذي أثخنته الجراح؛ فالنصر الذي لا يُثمر عدلًا وأمانًا قد يتحول إلى لعنة.

لا قيمة لتحرير ولا أمان يرتجى بعده في غياب العدل عنه..
والمنتصر الحكيم هو من يطهر ساحات بلاده ممن عاثوا فيها فسادًا وأهلكوا الحرث والنسل؛ بالمحاسبة العادلة لا بالانتقام الفوضوي.

إن الناس بحاجة إلى وطن يحتضنهم جميعًا، لا إلى وطن يمزقهم بين غالب ومغلوب؛ يعينهم على ذلك سرعة البدء في بنائه كل في مقامه الذي أقامه الله فيه؛ فحرية بلا بناء؛ جسد بلا روح.

إن على المنتصر أن ينهض بوطنه، وأن يعيد بناء  دولة قوية لا تُعيد إنتاج الظلم الذي قاتل لتحريرها منه.
وإن هذا البناء في المجالات المختلفة هو المعركة الحقيقية التي تضمن استمرار النصر، وهي التي تمنح الشعب معنى لحرية بذلوا من أجلها الغالي والنفيس.

ولا تنسَ أن النصر قد يُسكر القلوب ويجعل الآذان صماء عن النقد، ولكن المنتصر الحقيقي هو من  يُصغي، ويتعلم من كل صوت ناصح؛ فكثير من  الأخطاء القاتلة تحدث حين يغفل القائد عن أصوات من حوله، وحين يختار العزلة خلف حجاب من القوة الموهومة.

وفي خضم ذلك كله، يجب ألا تُنسى الدماء التي روت الأرض.
وإن الوفاء للشهداء لا يكون بتكريم ذكراهم وحسب؛ بل برعاية من تركوهم خلفهم، والتمسك بالمبادئ التي بذلوا حياتهم من أجلها.
هذا الوفاء هو ما يربط الماضي بالمستقبل، ويمنح النصر معناه الحقيقي.

ولا بد للمنتصر أن يتذكر أنه بقدر ما يبلغ من القوة عليه أن يتحلى بالحكمة في التعامل مع خصوم لم تتلطخ أيديهم بدم حرام، ولم يحرضوا على سفكه.

إن الحرب قد تنتهي، لكن آثارها تبقى، وجرح القلوب لا يُشفى بالانتقام.
إن التسامح – هنا – هو الذي يُطفئ النار في الوطن، وهو الذي يُمهد لسلام حقيقي يحتاجه الجميع.

ولنعلم جميعا..
أن النصر بركة من الله، وأن دوام هذه البركة يتطلب شكر النعمة وإخلاص النية.
فمعركة التحرير ليست نهاية النضال، بل بداية قصة جديدة.

فكن المنتصر الذي يبني وطنًا يُخلد نصره..
وطنًا لا يكتفي بالحرية؛ بل يجعلها حياة تُزهر بالعدل والبناء.