في مجتمعاتنا، يحدث كثيرًا أن تُختزل الثقافة في عدد السنوات الدراسية، أو تُحشر في خانة التخصص الجامعي، أو تُعلَّق كوسام على صدر حامل شهادة عليا…

لكن، هل الشهادة دائمًا تعني الوعي؟

هل التعلم وحده يصنع مثقفًا؟

وهل كل من يحفظ القواعد يعرف كيف يعيش الحياة؟!

لقد أصبحنا نخلط بين المتعلم والمثقف كما نخلط بين البذخ والكرم… وكما نخلط بين الضجيج والتأثير…

وكما نخلط، غالبًا، بين من يعرف أن يتكلم…ومن يعرف متى يسكت.

المثقف الحقيقي لا يُقاس بعدد الكتب التي قرأها، بل بعدد المرات التي أعاد فيها النظر إلى نفسه، إلى معتقداته، إلى مجتمعه…لا يُقاس بحجم المعلومات المخزّنة في رأسه، بل بمدى عمقها حين تنعكس على سلوكه.

ذاك الذي يسخر من العوام، ويتعالى على الناس بلغة معقدة…قد يكون تعلم، لكنه لم يتهذب.

وقد يكون قرأ “المقدمة” لابن خلدون، وحفظ فصولها عن ظهر قلب…لكنه نسي أن لكل علمٍ مقدماتٍ أعمق..اسمها التواضع، واسمها النية، واسمها أن تعرف أنك لا ولن تعرف كل شيء.

نسي أن الثقافة ليست ما نُعلن، بل ما نُمارس بصمت…في طريقة استماعنا، في ردود أفعالنا، في كيفية اختلافنا.

الثقافة ليست غنيمة نلوّح بها في وجه الجهلاء…الثقافة مسؤولية، والتزام، وأدب…

إنها قبل أن تكون ماذا نعرف، هي كيف نعيش ما نعرف.

قال لي شاب قارئ مرّة:

التقيت مرةً رجلًا مسنًا يبيع الكتب القديمة على الرصيف، لم يُكمل تعليمه؛ لكنه كان يحاورني عن ابن خلدون كأنه زامله، وعن المتنبي كأنه جالسه، وكان يربط بين أحداث التاريخ وأزمات الحاضر بوعي نادر.

ذلك الرجل لم يتعلّم في قاعة محاضرات،

لكنه علّمني درسًا في الثقافة لا يُنسى.

كم من إنسان لم تطأ قدمه قاعات الجامعة؛ لكنه يحمل وعيًا يشعّ من كلماته البسيطة…

وكم من حامل شهادة لا يرى العالم إلا من نافذة تخصصه، ثم يظن أنه رأى كل شيء!

في النهاية، الثقافة ليست شيئًا يُعلّق على الجدران…إنها شيء يُرى في طريقة تفكيرك، في اختياراتك، في أولوياتك…

هي أن تفهم ما وراء الحدث،أن تسأل قبل أن تصدّق،أن تعترف بجهلك حين تجهل، بدل أن تدّعي علمًا لا تملكه.

الجهل خطير..لكن الأخطر منه حين يتزيّن بورق الثقافة..حين تُقال الترهات بلغة أنيقة..حين تُستخدم المعرفة كعصا لضرب المختلف؛ لا كنافذة لفهمه!.