التجربة العراقية كمرجعية سورية

طالما شعرت ككاتبة أن هناك تقاطعات غامضة بين خطابي الثقافي وخطاب الكتّاب العراقيين المقربين مني. ففي إحدى الندوات في معرض الكتاب في تونس، كانت الصديقة الروائية إنعام كه جه جي تجلس على المنصة مع الصديق الروائي أحمد سعداوي، يحاورهما الروائي نبيل سليمان، لأشعر بأنني أسمع صوتي في كلام إنعام.

ربما بسبب التقارب الشديد بين التجربتين العراقية والسورية، لا من خلال حكم البعث الطويل لكل من البلدين فقط، ولا من خلال الحرب التي اشتعلت بعد سقوط نظام صدام، والحرب التي أشعلها نظام الأسد، ولا في المخاوف التي يعيشها البلدان والشعبان، بعد التخلص من صدام وبشار، رغم أن العراقيين سبقونا، وإنما أيضًا، وفوق كل هذا، فإن العراق، لديه تجربة مع المبدعين الأكراد، حيث تكثر الأقلام التي تكتب بالعربية، والتي تنحدر من أصول كردية، كما هو الأمر في سورية.

ففي سورية، إذا توقفنا عند التجارب الروائية والشعرية والموسيقية وفي الفن التشكيلي، سوف نخرج بعشرات الأسماء المؤثرة في المشهد الثقافي العربي السوري، من أصول كردية.

لهذا أثق بالتجربة العراقية، وأشعر أننا نحن السوريين والعراقيين، “سوا ربينا”، إذ تربط سورية بالعراق، التجربة الثقافية المتقاربة، وتاريخ البعث بين البلدين، ومعارضة الشعبين لهذا الحزب، حتى الأغاني والمزاج الشعبي اليومي…

مناسبة هذه المقدمة، هي محاولة لاستشراف مستقبل الأدب السوري، من خلال التجربة العراقية، مع إيماني بأن الزمن سريع التحول، وأن الكثير من القضايا تأخذ أشكالًا مختلفة بسبب التقنيات المرتبطة بحقبة زمنية وتغيّرها في مرحلة أخرى، وأن التكهّنات السياسية خاصة، شبه مستحيلة، لأن مراكز صناعة القرار السياسي في العالم، متحوّلة ومنحازة ولا نفهم مكاننا الحقيقي، كأبناء منطقة مشتعلة بالحروب والثورات والانتفاضات والقلق الدائم.

أقرأ للكتّاب العراقيين، بين حين وآخر، لأحاول المقارنة بين تجربتهم، وتجربتنا كسوريين، وقد قرأت مقطعًا للروائي العراقي علي بدر، في صفحته على الفيسبوك يقول فيه: بعد احتلال العراق، انغمر المثقفون في الكتابة في اليومي من السياسة. وهو كمن يطارد سرابًا، غافلين عن أن السياسة متغيرة أكثر وفي النهاية، بلا أثر، سنوات في تحليل ما لا يبقى، وفي النهاية، بلا أثر. أدركت منذ البداية أن هذا الطريق عبثي، لم أضيّع وقتي في “العلاك الفاضي”، بل انصرفت إلى ما يبقى: الرواية السياسية، السيناريو السياسي، المسرحية السياسية، النقد. هذا هو ما يواجه الزمن. ومع ذلك، لم أنفصل عن القضايا الراهنة، لم أعتبرها نهائية، بل لحظة للتفاعل لا أكثر. بعد عشرين عامًا وجدنا أن أكثر المثقفين من جيلنا لم ينتجوا أي شيء، كمن وضع رأسه في الجدار.

هل يمكننا الآن، تطبيق هذا الكلام الذي يصف الحالة الإبداعية في العراق، بعد احتلال العراق، وانغماس المثقفين في الكتابة اليومية السياسية، وعبثية هذا الإنتاج وخلوه من الأثر على سورية؟

كيف يمكننا نحن الكتّاب السوريين أن ننجو اليوم من فخ الهاجس السياسي، والتحليق في الفضاء الإبداعي؟ في الوقت الذي يتعرض فيه بلدنا إلى الكثير من التغييرات السريعة من جهة، وأثر هذه التغييرات السريع أيضًا في إحداث هزّات معرفية خاطئة قائمة على الانفعال الآني الذي يولّد خطابات كراهية ويهدد السلامة المجتمعية.

دور المثقف السوري في سورية الجديدة

انقسم المثقفون السوريون بمواقفهم من الحراك الشعبي في ثورة 2011، إلى مؤيد ومعارض. أغلب المعارضين اضطروا للخروج من البلد، خوفًا على حياتهم، أما المؤيدون، فقد كان منهم المؤيد الفعلي لنظام الأسد، ومنهم من اضطر لهذا الموقف، خوفًا على سلامته.

أما اليوم، وبعد فرار نظام الأسد من سورية، التي صارت ملكنا نحن أبناءها السوريين، وعادت لنا ملكيتها، واستطاع الجميع إعلان مواقفهم دون خوف، فقد اتّسع فريق المؤيدين للثورة، وتضاءل فريق مؤيدي النظام المهزوم.

لكن فريق الثورة ذاته، منقسم اليوم إلى عدة مستويات، فمنه من يدعم الحكومة الجديدة، فرحًا بالخلاص من نظام الأسد، ومنه من لديه تحفظات، لأن تطلعاته أعلى من الراهن، ويعتقد بأن تضحيات الشعب السوري تستحق مساحة أكثر من الحريات والديمقراطية.

كما أن القسم الأول من مؤيدي الحكومة الجديدة، الذي يلتفّ حول حكومة دمشق الحالية، منقسم إلى متفق وصابر على ما يجري من انتهاكات لا علاقة بالحكومة بها مباشرة، وبين قسم ينتقد ويطالب باتخاذ إجراءات سريعة لوقف هذه الانتهاكات.

ضمن هذا التعدد، الصحّي برأيي، للمواقف السياسية من الإدارة الحالية، يجد المثقف السوري نفسه واقعًا في سوق من الأفكار السريعة وردات الفعل المتقلّبة والحاجة إلى القليل من التأمل، الذي يعتبر ترفًا لا توفّره سرعة تتالي الأحداث.

لهذا فإن المثقف السوري يجد نفسه، رغمًا عنه، مهما حاول أن ينأى بنفسه للتأمل وتفكيك المشهد، منخرطًا في الحراك المجتمعي والسياسي لممارسة دوره في التوجيه والمشاركة معا.

من هنا، تتعدد نشاطات المجتمع المدني، وتكثر اللقاءات والندوات، وتتسع دائرة الحوار والاختلاف والجدل والمناورات الفكرية أحيانًا، لأن المجتمع السوري قُمع طويلًا ومنع من التعبير، لتأتي هذه المرحلة مليئة بالسجالات ومحاولة التأثير وتبادل المعرفة والتطلعات ورسم البلد وفق المشهد المحلوم به لدى كل فرد سوري اليوم.

معوقات الكتابة الإبداعية البعيدة عن الهم اليومي

تنتابني، ربما أيضًا غيري من الكتاب والكاتبات السوريين، حالة “تضييع الوقت والطاقة”، حين أجدني منغمسة في المشهد اليومي، لكنني عاجزة عن الانسحاب إلى الإبداعي المحض، البعيد عن الدائرة المباشرة.

ففي الهم اليومي، لا يتعلق الأمر فقط بتلبية الاحتياجات الأساسية من ماء وكهرباء وتدفئة، ولا حتى في الهم اليومي السياسي، للاعتراض على قرارات لا تلبّي طموحات الشعب، بل عبر التدخل أيضًا وإعطاء الرأي في انتهاكات تحصل وتخضّ الرأي العام السوري، ولا يستطيع المثقف/ المواطن، فصل دوره الفكري النقدي عن الاجتماعي المنفعل أحيانًا.

شخصيًا، كنت أحسد الكتّاب العرب، في مرحلة الثورة السورية، لأن لديهم بلدًا يحمي وجودهم الثقافي ونشاطاتهم ككتّاب، من خلال الندوات أو حفلات توقيع الكتب أو حضور معارض الكتاب في بلادهم، والآن سقط النظام في سورية، وصار بإمكان الكتّاب السوريين، إقامة هذه الفعاليات على أرض سورية، ولكن هذا أيضًا ليس أولوية الآن في الشأن السوري ضمن ملفات أكثر سخونة وتأثيرًا على الحياة الاجتماعية والعلاقة المواطنية بين السوريين أنفسهم. لهذا لا أزال، ككاتبة، أشعر بالغربة عن هواجس وهموم الكتاب العرب، المتفرغين للشأن الإبداعي المحض، بينما نحن الكتاب السوريين، نشعر بأننا عاجزون عن الثبات في دائرة الإبداع المحض، وغارقون في همّ الشأن اليومي المتقلّب والمتغيّر والمتحوّل بطريقة لا نكاد فيها نلفظ أنفاسنا ونحن نلهث وراء معالجة الحكايات المتفرعة من حكايات كثيرة.

إن بقاء الكاتب السوري اليوم في غرفة الكتابة الخالصة يعد ترفًا، بل هو حالة يصعب الوصول إليها الآن، بعد سقوط النظام، أكثر مما كانت صعوبته أثناء وجود النظام، فإذا كان الخوف من النظام من قبل، سببًا لنكوص البعض عن الدخول في الشأن العام، لم يعد هناك أي مبرر اليوم لهذا النكوص، وقد سقط النظام، وزادت مسؤولية المثقف لممارسة دوره النقدي والتفكيكي في مشهد يحتشد بالصراع والمصالح الدولية وخشية غياب الاستقلالية الوطنية، ليصبح للمثقف السوري اليوم عشرات الرؤوس تتحرك معًا: رأس الكتابة الإبداعية الخالصة ـ رأس الكتابة اليومية ومحاولة النقد الآنيةـ رأس المواطن الأسبق على رأس الكاتب للمشاركة في ندوات تنويرية… وإذا كان هذا المثقف امرأة، فإن هناك فوق هذا، رأس المرأة المنهمكة في الربط بين النسوي والإبداعي والوطني، ليصبح أحدنا، أو إحدانا، مثل فرانكشتاين، متقطّعًا بين عدة اهتمامات، عاجزًا عن ترتيب الأولويات، ينوس بين ما يقوم به من أجل الآن، وما عليه فعله من أجل صناعة الغد. 

*ضفة ثالثة