الدكتور عبدالله تركماني

تلاقي إشكالية الحروب الأهلية جدلاً واسعاً في المجتمعات المعاصرة، خاصة في الدول الهشة جنوب العالم، التي توصف بأنها متأخرة عن حضارة العصر، خاصة في ظل ما حملته الأفكار والمعلومات والصور والقيم، القادمة مع المفرزات السلبية للعولمة من إمكانية تفجّر مخاطر الهويات الفرعية والمظلوميات التاريخية، حيث تنبعث العصبيات القبلية والطائفية والمذهبية والقومية، وتزداد الرغبة في البحث عن الجذور وحماية الخصوصيات ما قبل الوطنية في هذه الدول، بما ينطوي على مخاطر عديدة.

وعليه، فإني سأحاول إلقاء الضوء على الحالة السورية التي تفجّر الصراع فيها منذ أربعة عشر عاماً عندما طالب الشعب السوري بالحرية والكرامة، والبحث عن أفضل المسالك لتجنّب الحرب الأهلية، التي شهدنا أحد مظاهرها مؤخراً في الساحل السوري، من خلال إجراءات وقائية، تتمثل في الاستجابة للمتطلبات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية للمواطنين.

خاصة بعد أن كشفت أعوام الثورة استعداداً كامناً في بنية المجتمع السوري لسرديات متباينة بين الاتجاهين الجهادي والديمقراطي، مما أدى إلى انفجار الأحقاد الطائفية والإثنية، والتحالفات التي أمست مكوّناً عضوياً من مكوّناتها، والعجز عن إنكار ظاهرة الإجرام واللصوصية والانتهازية، التي إن كانت طبيعية لدى نظام الاستبداد فهي لا تتلاءم مع ما هو مأمول بعد التغيير في 8 كانون الأول/ديسمبر. إذ إنّ التنظيمات المتطرفة استطاعت تقديم منتج سياسي أيديولوجي قادر على التحقق النسبي في شكل الخلافة الإسلامية، وعلى الانسجام مع الحقل التداولي المشترك من دون عوائق، مستفيداً في الوقت نفسه من مؤازرة السياق الذي يلعب فيه التوتر الطائفي الدور الأبرز.

إشكالية الهوية في زمن الحروب الأهلية

أدى تآكل الثقة في بعض الدول الهشة إلى تفكك مجتمعاتها على أساس الهويات التقليدية ما قبل الوطنية، وكان من المرجح أن يؤدي هذا التآكل إلى ديناميات متنافسة من الاستقطاب السياسي، وبالتالي إلى تفكك مجتمعات هذه الدول، وصولاً إلى الحروب الأهلية. بالرغم من أنّ الطبيعة المرنة للهوية تخالف ادعاءات التعصّب، السياسية والدينية والقومية، وعمليات التحنيط، التي تجري على الهوية، وتجعلها دوغمائيات بأطر مقدسة مغلقة، تخالف حقيقة حرية الإرادة، وتجعل من الآخر عدوّاً، بما يؤجج الصراعات الدينية والقومية. وفي حالة الدولة والمجتمع يمكن للتعصّب أن يكون سبباً في تفككهما، فعندما تكون ” الهوية الدينية ” عاملاً وحيداً للتماسك الاجتماعي، لاسيما في المجتمعات المتعددة المكوّنات الدينية، كما هو الحال في سورية، فإنها تصبح مورد التعبئة والتحشيد العام الوحيد لأصحاب مشروعات الهوية المغلقة. بحيث تصبح المرجعية الدينية عامل توترات في المجتمع، إذ عندما يقود التطلّع إلى التفاعل مع الآخرين باسم العلاقة مع المقدس، أي بحكم قيمة سلبي مسبق ضد هذا الآخر، يفضي ذلك إلى استبعاد أولئك الذين لا ينتمون إلى المجموعة واستثنائهم بل تهميشهم، لأنهم لا يحملون هوية مماثلة.

إنّ الحروب الأهلية على أرضية الهويات تحمل في طياتها أخطاراً للمجتمعات والدول، لذلك فإنّ اللبوس الهوياتي إذا لم يتم التخفيف من حدته ومحاصرته سيزيد من حدة التعصب وينتج أنماطاً أخرى من التطرف، مما قد يجعل مستقبلنا تحت وقع التهديد بحرب “الكل ضد الكل”. الأمر يحتاج إلى صياغة نموذج خطابي لمشترك إنساني يستوعب التعددية والاختلاف، بحيث يتلاشى معه الانغلاق والتقوقع على الذات.

في أهمية بناء الدولة الحديثة للحد من إمكانية تفكك المجتمع

تتميز الدولة الحديثة اليوم بقرن الحريات الفردية بالتكوين الجديد للمجتمعات والدول، بعد أن ترافق فتح الأسواق والاتصالات مع الاتساع في تأسيس منظمات مجتمعية متنوعة حرة. مما فرض ضمان الحقوق والحريات والهويات والفرص لكل الجماعات المكوّنة للمجتمع، بدون الحاجة للاستيعاب القسري، من خلال مشاركة الجميع في صياغة السياسات العامة التي تمس حياة المواطنين، أي صيغة إدارة تقوم على قاعدة تشاركية عريضة، تحتوي داخلها كل المكوّنات المجتمعية، التي يحظى كل مكوّن منها بنصيب في المشاركة بالإدارة، بالطبع استناداً إلى الكفاءة والقدرات وليس إلى المحاصصات المعطِّلة للجدوى. وذلك انطلاقاً من أنّ الدولة الحديثة هي الإطار السياسي الذي يستطيع الإنسان، من خلاله، تنظيم حياته وشؤونه.

لقد لاحظ عزمي بشارة أنّ “حالة الارتداد عن الحداثة إلى مؤسسات المجتمع التقليدية، خارج الدولة، لا تنتج أنظمة حكم، بل مراحل انتقالية نحو تفسُّخ الدولة([1]). وفي كل الأحوال، من المهم أن تؤدي مبادئ وقيم الحداثة السياسية، الديمقراطية والعلمانية والعقلانية، إلى الهوية الوطنية الجامعة، بما تخلقه من إجراءات الثقة بين المكوّنات الاجتماعية المختلفة، إضافة إلى التخلّي عن هوس الهوية الفرعية/الأهلية.

مخاطر تفكك الدولة السورية وكيفيات معالجتها

إنّ تشكّل الوطن السوري، خلال التاريخ المعاصر، عرف صراعاً كبيراً على تحديد هويته. حيث أخذ هذا الصراع، في بعديه الاجتماعي والسياسي، تعريف الهوية إلى خارج النطاق الجغرافي والقيَّمي المشترك للسوريين. وهذا يساعدنا على فهم أسباب ضعف الهوية الوطنية السورية، وعودة الهويات الفرعية/الأهلية لتكون الرابط الأساسي، في فكر وممارسة نسبة كبيرة من الشعب السوري، وقد ظهر ذلك جلياً في الساحل السوري مؤخراً. مما يشير إلى تعثّر مشروع الدولة الوطنية الحديثة، إضافة إلى الانهيار في أنساق المجتمع السوري، حيث الانقسام الهوياتي، الأهلي والمدني، يتفاقم بشكل عميق. إذ أدت الهويات الأهلية، ما قبل الوطنية الجامعة، إلى انزلاق سورية إلى حرب أهلية، تنطوي على مخاطر تفكك المجتمع والدولة.

ولا شكَّ أنّ حالة الوطنية السورية، الموصوفة أعلاه، رسّخها نظام الاستبداد طوال خمسة عقود، من خلال صهر جميع أفراد المجتمع السوري في بوتقة واحدة، وإعادة تشكيلها على أساس الولاء المطلق للوطن المختزَل برمز سلطة الاستبداد “سورية الأسد أو لا أحد”. إذ لم يسعَ إلى تأسيس الوطنية السورية الجامعة لكل مكوّناتها، بل تهميش وإقصاء بعضها عن النظام السياسي ومشاريع التنمية الاقتصادية والاجتماعية، مما أدى إلى تراكم سلبي ونكوصي لها عن الوعي الوطني الجمعي، وبالتالي بروز المظلوميات التاريخية، بعد أن فشل في إدارة اختلاف مكوّنات المجتمع السوري، خاصة من زاوية مخاطر عدم المساواة الاقتصادية والاجتماعية بين المدن والأرياف، وظهرت عدة مناطق مهمشة.

لقد شهدت انطلاقة الحراك الشعبي في عام 2011 بداية خطاب وطني سوري جامع، ولكنّ تحوّل الحراك إلى العسكرة والأسلمة المتطرفة أظهر عمق ترسّخ الانتماءات العابرة للوطن السوري. خاصة بعد الاستقواء بإيران وميليشياتها اللبنانية والعراقية والأفغانية والباكستانية، والتدخل العسكري الروسي، من قبل النظام. وكذلك الحركات ” الجهادية الإسلامية” التي جاءت إلى سورية من كل حدب وصوب، بتسهيلات من عدة دول عربية وإقليمية.

كما ساهم التوظيف السياسي للدين في التشويش على الانتماء الوطني الجامع، العابر للانتماءات الدينية والمذهبية، والخلط بين الديني والوطني. خاصة في ظل الهشاشة الهيكلية للدولة السورية، وعدم قدرة النخب السياسية المتعاقبة على بناء سياسات للتكامل الوطني حول الهوية الجامعة العابرة للمكوّنات الفرعية/الأهلية. مما أدى إلى بروز الهويات الفرعية المختلفة.

بعد 14 سنة من الثورة السورية والتي كانت جامعة لكل أطياف الشعب السوري، يجد المراقبون للساحة السورية من الساحل إلى جنوب سورية وشرقها أن ما يحصل من تطورات وأحداث أمنية يرفع صوت الإنذار والخوف من انزلاق البلاد باتجاه الفتنة الطائفية. خاصة بعد أن اعتمد مجلس الأمن الدولي بياناً رئاسياً “يدين بشدة أعمال العنف واسعة النطاق المرتكبة في محافظتي اللاذقية وطرطوس بسورية منذ 6 مارس/آذار الحالي، والتي شملت عملياتِ قتل جماعي لمدنيين، ولا سيما في صفوف الطائفة العلوية”. 

وأكد كذلك “أهمية مكافحة الإرهاب في سورية ويُعرب عن قلقه البالغ إزاء التهديد الشديد الذي يُشكّله المقاتلون الإرهابيون الأجانب”. وحث سورية على “اتخاذ تدابير حاسمة للتصدي للتهديد الذي يشكّله المقاتلون الإرهابيون الأجانب، ويؤكد التزامات سورية بموجب قرارات مجلس الأمن ذات الصلة المتعلقة بمكافحة الإرهاب”.

ودعا إلى “تنفيذ عمليةٍ سياسية شاملة للجميع يقودها السوريون ويمتلكون زمامها، وتيسرها الأمم المتحدة، وتستند على المبادئ الرئيسية الوارد بيانها في القرار 2254 ويشمل ذلك حماية حقوق جميع السوريين، بغض النظر عن الانتماء العرقي والديانة. وينبغي أن تلبي هذه العملية السياسية التطلعات المشروعة لكل السوريين وأن تحميهم جميعاً وتمكّنهم من تقرير مستقبلهم على نحو سلمي ومستقل وديمقراطي”.

ومن المؤكد أنّ إنكار انقسام السوريين وتشظي مجتمعهم، بعد أربعة عشر عاماً من الثورة، لا يساعد على التعاطي المجدي مع المشكلة، إذ إننا لم نتعرف بعد على الهوية الوطنية السورية الجامعة، وإنما إلى هوياتنا الفرعية ما دون الوطنية، أو ما فوق الوطنية.

وهنا تبرز أهمية تعزيز الانتماء الإيجابي، الإرادي والحر والمعاصر، لكل مكوّنات الشعب السوري، على أنها عوامل تنوّع وغنى. مما يقتضي وضع حدٍّ للانتماء السلبي الإكراهي، في ظل التوصيفات العددية (الأكثرية والأقلية)، وكذلك إنهاء وصاية البعض على الآخر تحت أي مسمى (قومي أو ديني). ويكمن الحل في التصالح مع التاريخ، وقبول الواقع الديمغرافي كنتيجة تاريخية عبرت الزمن وأخذت صورتها الحالية، إضافة إلى إقامة نظام ديمقراطي تعددي وشراكة سياسية حقيقية، ووضع حدٍّ للاستعلاء القومي والديني.

إذ إنّ العمل على صياغة الإجماع السياسي أهم من اختلاق وهم الإجماع الثقافي، الذي يستحيل قيامه مهما حاولت المجتمعات مسايرته أو الخضوع له، فالفرد قد يتماهى – ظاهرياً – مع من يفرض عليه وصاية ثقافية، ولكن لا يعني ذلك قبوله بها أو حدوث تغيير في اعتقاده وقناعاته. فالإجماع السياسي الواقعي، المبني على المصالح المشتركة قابل للوجود والديمومة، بينما الاجماع الثقافي المبني على الوهم قابل للتمزق عند أضيق المنعطفات، ولكنّ الإجماع السياسي لديه المرونة على تجاوز المنعطفات الكبيرة والخطيرة. إذ إنّ الحداثة السياسية “جاءت بالدولة الوطنية الحديثة بوصفها الوحدة الاجتماعية التي توحّد الناس بواسطة روابط مدنية، قائمة على الحقوق المدنية والسياسية والاجتماعية للمواطنة([2]).

إنّ دولة المواطنين السوريين، المتساوين في الحقوق والواجبات، هي الأقدر على احتضان حقيقي لتعدد المكوّنات الاجتماعية، لأنها دولة جامعة ترعى الاختلاف، وهي ناظم لتطبيق القانون، من غير انغلاق أو احتكار. حيث لا يمكن الحديث عن هوية أغلبية وهوية أقلية، لاسيما إذا كان القصد التفوّق والأحقية، لأنّ ذلك سيعني وطن خارج إطاره الإنساني.

إنّ المواطنة تقوم على قاعدة المواطن/الفرد، وعليه فإنّ الفوات التاريخي للوطنية السورية يطرح علينا مهمة المساهمة في إعادة صياغة المفاهيم المرتبطة بالوطنية الجامعة (الهوية، المواطنة، المكوّنات، دولة الحق والقانون)، أي المساهمة في تجديد الثقافة السياسية لدى السوريين. خاصة أنّ مخاطر التفكك ستكون حاضرة بقوة خلال المرحلة الانتقالية، وإعادة البناء ومرحلة العدالة الانتقالية.

إنّ السعي إلى إحياء الهوية الوطنية السورية الجامعة لا ينطوي على إلغاء الهويات الفرعية، كي تكون قادرة على تلبية حاجات الاجتماع السياسي، أي إعادة بناء الدولة السورية الحديثة، باعتبار أنّ غياب هذه الهوية عامل أساسي في استفحال الكارثة السورية، خاصة تسهيل التفريط السياسي بالوطن السوري. مما يقتضي صياغة العلاقة بين مكوّنات الشعب السوري على أسس جديدة، تنبذ الطائفية والمذهبية والعصبيات المختلفة. وصياغة سورية الجديدة، سورية الوطن والمواطنة والتعدّد والتنوّع، على قاعدة الديمقراطية السياسية والاجتماعية. ومن المؤكد أنّ إعادة بناء الوطنية السورية الجامعة ليست أمراً يمكن إنجازه عبر إجراءات فوقية، وهي ملازمة للعملية السياسية التشاركية، ونتيجة متدرجة لها، ولكنها لا تُبنى على المحاصصات الطائفية من أي نوع، وإنما على أساس الكفاءة والولاء للدولة الوطنية.

إنّ المسألة الهامة في سورية المستقبل هي كيفية اعتبار تعدد المكوّنات غنىً، ولكي تصبح كذلك لا بدَّ من توفّر عدة شروط من أجل الاندماج الوطني الإيجابي([3]): الاعتراف والاحترام المتبادل بين كل المكوّنات، والحق المشروع لكل مكوّن في ممارسة ثقافته الخاصة دون أن تؤثر سلباً على ثقافة المكوّنات الأخرى، والتفاعل والتلاقح الثقافي المتبادل بدون محاولة فرض إحداها على الأخرى.


([1]) عزمي بشارة، في المسألة العربية (مقدمة لبيان ديمقراطي عربي)، مركز دراسات الوحدة العربية – بيروت، ط2 2010، ص 68.

([2]) ريتشارد مينش، الأمة والمواطنة في عصر العولمة (من روابط وهويات قومية إلى أخرى متحولة)، ترجمة: عباس عباس، منشورات الهيئة العامة السورية للكتاب – دمشق 2010، ص 7.

([3]) محمد منصور حسن سيف، المواطنة والهوية في عالم متغيّر، مكتبة الأنكلو مصرية – القاهرة 2015، ص 69 – 71.