«النسوية»، «النقد النسوي»، «ما بعد النسوية» مصطلحات ومفاهيم تم توظيفها في مجال النقد الأدبي ومن ثمّ النقد الثقافي، ولاقت مكانها في النظرية النقدية والسياسية الغربية، حيث نشأ المصطلح وتطور. ولكن كالعادة في شرقنا السعيد، يتم استيراد المصطلحات ومفاهيمها في طورها الأخير، وبالتالي توظيفها في سياق مختلف، وبالتبعية يصبح الحديث عن عالم ومجتمع موهوم، لا يتشكل إلا في مخيلات المنظرين والمنظرات الأجلاء.
نحن لا نتحدث عن نظريات تعالج قضايا تاريخية وأسس اجتماعية مثلاً، يمكن بالكاد تطبيقها على تاريخ الشرق، ومن وجهة نظر صياغته من خلال تداخل قوى غربية مؤثرة على حركته من فعل ورد فعل. أما معالجة القضايا من وجهة نظر (نسوية) وتصدير بعض الأصوات، التي لا تعرف سوى الكتب والمراجع الغربية، فلا تعرف شيئاً في الغالب عن طبيعة حياة النساء في مجتمعاتهن، وإن صادفهن في مكان فبالكاد يكتفين بتطبيق نظرياتهن المستوردة عليهن كنماذج ـ من الخارج ـ تثبت لهن صحة النظريات ووجهة النظر المتبناة، دون إدراك أن المسألة في مجتمعاتنا سياسية بالأساس، وتتعلق بحقوق مهدرة لم يحصل عليها لا الرجال ولا النساء.
ومن ناحية أخرى تأتي المفارقة، من فارق شاسع بين حياة المُنظرات والنساء (عينة البحث) فهل يعرف أي منهما شيئا عن الآخر؟ وهل توافق عينات البحث عن تبني أصواتهن، والحديث بلسانهن، ووضع تصورات عما يأملنه ويرجونه في الحياة؟ أم أنها معارك شخصية عن حالات الخيبات والخسارات، ومحاولة يائسة لما يمكن أن نطلق عليه تحقيق الذات في الوقت الضائع؟ هل تعلم بائعة في سوق خضار، أو عاملة في مصنع، أو خادمة في بيت، أو موظفة في شركة، عن مؤلفات وندوات مناضلات الصحف والمؤتمرات ومعارض الكتاب؟

صفوة المعرفة

تذكر الكاتبة هالة كمال في البداية أن الكتاب يعتمد على مقارنة (4) نصوص/روايات من مجتمع وثقافة مغايرة، وبينها مشتركات فالبطلات من الصفوة المعرفية، وهي الفئة التي يستمد أعضاؤها طراق عيشهم من العمل في صناعة المعرفة، لذا يمثل قوامها مجتمع المتعلمين، وتتكون من الطبقات الوسطى والعليا وطلاب الجامعة. كما أنها تناولت هذه النصوص من منظور (الحركة النسوية الثالثة)، التي تعد امتدادا للحركة النسوية التي ظهرت آواخر ستينيات القرن الفائت في الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا.
وهذه الروايات محل البحث هي.. «نون» للمصرية سحر الموجي 2007، «بنات الرياض» للسعودية رجاء الصايغ 2005، «أوقف الساعة» 2012 للإنكليزية أليسون ميرسو، والأخيرة لجولي سوليفان «بداية» 2009.
عبر أربعة فصول تمثلت موضوعات تجتمع تحتها تنظيرات لهذه الروايات، وهي.. الزمان السردي، المكان السردي، اللغة والجندر، والمنظور الروائي. صدر كتاب «رواية الموجة النسوية الثالثة» للباحثة والأكاديمية المصرية هالة كمال، عن الهيئة العامة لقصور الثقافة، سلسلة (كتابات نقدية)، القاهرة 2025.

«الموجة النسوية الثالثة»

تعد الفترة ما بين 1988 وحتى 2012، الفترة التي تم التأريخ لها باسم (الموجة النسوية الثالثة)، التي تشكلت بداياتها بين عامي 1991 و1995، والتي جاءت كرد فعل عنيف على نسوية الثمانينيات، حيث أعلنت وسائل الإعلام في الغرب وفاة النسوية، وأن الحركة خلال الستينيات والسبعينيات قد حققت أهدافها، وبالتالي لا داعي لها. أما الحركة الثالثة التي استفادت من الموجتين السابقتين، فتميزت بعدة مظاهر منها.. أنها أيدت مفهوم (الجندر) كنسق اجتماعي بديل عن التقسيم الثنائي إلى رجال ونساء، هذا المفهوم الذي يعد امتدادا لمساواة المرأة مع الرجل، كما ذكرته سيمون دوبوفوار. وكذلك أن للمرأة الحق في اختيار طريقتها الخاصة في ما يتعلق بجسدها ومظهرها الخارجي، وهو ما يمكن وضعه تحت عنوان (معايير الجمال)، فقد كان يُنظر إلى عناية المرأة بجمالها إلى الإبقاء على النساء خاضعات ومقموعات، إضافة إلى (درء الخرافات حول المرأة)، وهو نقد ما حاولت وسائل الإعلام ترسيخه حول المرأة، من حيث إن النساء العاملات أكثر عرضه للاكتئاب، وأن الزواج لم يعد هدفاً أساسياً في حياة النساء. وفي الأخير تأتي (الرابطة الأخوية بين النساء)، التي تعني دعم النساء لبعضهن بعضا، مع التركيز على أهمية تميز الفرد وعدم إلغاء هويته داخل المجموع، وعدم النظر إلى النساء على اعتبارهن ضحايا، ويجب أن يتحدن للدفاع عن أنفسهن، ولكن باعتبارهن قادرات على تحقيق الإنجازات.

نساء الروايات

وبنظرة سريعة على بطلات الروايات محل البحث، سنحاول بدورنا التنظير الباهت حول طبيعتهن، وهل يمثلن بدورهن صورة (البطل المُشكِل) ـ حسب تعبير جورج لوكاتش ـ وهو الممثل لفئة غالبة، ومُعبّر عن آمالها وطموحاتها؟ أم أنها فقط صور من فقاعات وتهويمات في مخلية النساء، ولا يهتم بهن أحد سوى هؤلاء، فهن صدىً لأفكارهن وحالاتهن وهزائمهن التي لا تمثل أحداً سواهن.

«نون»

نساء (نون) لسحر الموجي ينحصرن في.. سارة مدرسة علم النفس، تكتب بحثاً سيتطور إلى كتاب، عن مطاردة الساحرات في أوروبا العصور الوسطى وحرقهن باعتباره (قراراً جماعياً غير معلن ينفي كل مَن يشرد خارجاً على قانون القطيع). ثم نورا نموذج المرأة المتحررة، المصابة بالاكتئاب. ودنيا الواقعة في ازدواجية والدها الفلسطيني وأمها المصرية، وتعاني في حياتها الخاصة وسلوكها السياسي ــ لازم شوية سياسة ــ قبل أن تعثر على نفسها في فن التصوير!

«بنات الرياض»

وهي رواية الكاتبة رجاء الصانع، التي لاقت شهرة غريبة لا مُبرر لها، وتحكي عن نساء من فئة ميسورة ومترفة إلى حدٍ ما، وتروى فصلاً من حياة فتيات في مرحلتهن الثانوية وحتى وصولهن للجامعة. ولك أن تجد ضالتك الخائبة في عمل عن حياة المراهقات وتصوراتهن، وتحولاتهن في مجتمع سعودي عام 2005، قبل موسم الرياض.

«أوقف الساعة»

وفي رواية الإنكليزية ألي ميرسر، فالنماذج لا تخرج كثيراً عن كليشيهات الكتابات النسويات، إلا إضافة علاقة مثليّة بين إحدى الشخصيات وصديقة تعرفت إليها في علاقة عابرة، وقد هددت هذه العلاقة حياتها مع زوجها. إضافة إلى خيانة زوجية لشخصية أخرى أنهت هذه العلاقة، بينما المرأة التي تعمل في الصحافة هي التي تتحقق بعض الشيء.

«بداية»

عنوان رواية الأمريكية جولي سوليفان، حول أربع صديقات.. منهن مَن تعرضت للاغتصاب، فابتعدت عن فكرة الزواج وقررت أن تصبح كاتبة. وأخرى تترك خطيبها بعد خيانته لها، وتقع في حب فتاة. وأخرى تقع في حب مدرسها المتزوج، ولكن العلاقة تفشل في النهاية. والأخيرة فتاة تؤيد الاتجاه النسوي الراديكالي، فلا تهتم بمظهرها الأنثوي، ورغم ذلك ـ سبحان الله ـ تقيم علاقة مع زوج أمها، تنتهي بحملها وإجهاضها للطفل، بمساعدة أمها. فتتجه بعد ذلك للاهتمام بالقضية النسوية والدفاع عن حقوق النساء.

كليشيهات التنظير

تبلغ صفحات الكتاب 441 صفحة، ولإضفاء الجدية والأهمية كان لا بد من اللجوء إلى المزيد من الاستغراق في التنظير، بما لا يُطاق أو يستقيم، كتنظيرات جيرار جينيت حول الزمن، من حيث الاسترجاع والاستباق، والمراوحة بين الوصف والسرد، ثم الحديث عن المكان والمقابلة المعهودة بين المكان المغلق والمفتوح، إضافة إلى جغرافية مكان الحدث، وكليشيهات (فضاء الحرية) و(سجن الذات). ونستشهد بهذه العبارات ذات التحليل المدرسي.. «حلمت أنها تترك شقة زوجها الصغيرة في المهندسين لتسكن في البناية نفسها في الدور الأعلى. كانت الشقة خالية من أي أثاث لكن نور الشمس كان يغمرها فبدت أكثر اتساعاً من حجمها» (نون 171) وتحلل الكاتبة الناقدة الأكاديمية المقطع هكذا.. «إن فعل الصعود إلى الطابق الأعلى صاحبته دلالة رمزية تشير إلى صعود الروح وترقيتها في مسيرتها، كما هو معروف عند الصوفية. وخلو المكان من الأثاث وانغماره بضوء الشمس يوحي برغبة الذات في التخفف من الاحتياجات المادية وتعطشها إلى الزاد الروحي، الذي تستلهمه من أشعة الشمس بما تشعه من ضوء وطاقة إيجابية». (الكتاب ص 128) فين السنيورة؟

ماذا لو؟

السؤال الملازم لهذه المؤلفات والأعمال النقدية والاحتفالات التي تصاحبها، ماذا لو تحققت عدالة اجتماعية حقيقية؟ كيف سيعمل هؤلاء بعدها، وكيف سيصدرون أو يصدّرن خطابهن الهزلي، وهن المتساويات مع مدّعي الحقوق المدنية والأوضاع المتدنية وسوء المعيشة وكل الموبقات، بينما أغلبهم وأغلبهن لا يعرفون مَن يتحدثون عنهم وبلسانهم. وهم (مناضلو الصالونات والمؤتمرات) الأكثر حرصاً على إبقاء الحال كما هو، وإلا سينتفي وجودهم. اتذكّر في ندوة أو احتفالية من هذه الاحتفاليات الخاصة بالمرأة وأحوالها السيئة، كان يُباع كتاب تذكاري يستعرض نشاط المؤسسة ـ أقيم الحفل من أجله ـ كان سعره وقتها 650 جنيها في 2018، لكن كان بـ520 جنيها بعد الخصم. وأعتقد أن (الدادة أم عطيات الشغالة) نفسها لن تستطيع الحصول عليه، حتى لو كانت صورتها تتصدر غلافه.

*القدس العربي