يصعب بالتأكيد تقديم تعريف بسيط لـ»الحقيقة»، وهي من أشد المفاهيم الفلسفية تعقيداً، ولا تساوي الواقعة Fact، التي يمكن التحقق مباشرةً من صحتها، أو خطئها، إذ أن الوقائع لوحدها لا تنتج معنىً، بل تحتاج لنوع من القراءة، والربط، والتحليل، لإنتاج معانٍ ومقولات متماسكة منها. أما «الحقيقة» فهي غالباً تكمن في مكان ما، بين أو حول الوقائع، والعبارات التي تنقلها، والمعنى الذي نستخلصه من ربطنا وتحليلنا لتلك العبارات والمفردات ودلالتها على المفاهيم، وتغيّر الدلالات عبر الزمن، بل الطريقة والمنهج والنظرية، الذين أنشأنا من خلالها «الموضوع» الذي نودّ معرفة حقيقته، ودفعونا للتركيز على وقائع معيّنة، واستخلاصها وتجريدها من محيط شديد التعقيد.
في كل الأحوال، فإن التأكيد على الصعوبة الشديدة لمفهوم «الحقيقة» ليس رخصةً للكذب أو التزييف، إذ يصعب أن نتواصل في أي مجال، دون أن نطالب بعضنا، وبشكل مبدئي، بقول الحقيقة؛ وبالتنازل عن حقنا في تفحّص قول الآخر، ونقده والتشكيك به، وبيان كذبه وزيفه، في حال رأينا أننا نتعرّض للغش أو الخداع.
ولكن، أي حقيقة سنطالب الآخر بقولها في قضايا الحيز العام، التي تنبني على الرأي، وتعددية المواقف والمواقع والمصالح، وتعارض العقائد والأيديولوجيات؟ لن يمكننا بالتأكيد، في حيّزٍ غير مقدّس، افتراض وجود قول حق واحد، على الجميع تكراره واتّباعه، وإلا كانوا ضالّين أو كذّابين.
ربما علينا أن نبدأ من العبارات التي نسمعها أو نقرأها، أي أن نطالب الآخرين بعبارات مفهومة، وذات معنى، وقابلة للتحليل والنقد. هذا يعني رفض الإنشائيات، الخاوية من المعنى الفعلي؛ وكل أصناف الابتزاز العاطفي والأخلاقي والديني والشخصي؛ وفصل القول ذي المصداقية عن الهراء، الذي قد تكون له وظائف اجتماعية مهمة، مثل المجاملة والتعاطف واللعب، إلا أن طغيانه على الحيز العام يجعل التواصل متعذّراً. إذ كيف يمكننا أن نعرف ونفهم ما يدّعيه الآخر، وما يشير إليه، وما يعتقده ويريده، في فضاء مليء بالهراء، والجُمَل التي لا تعني شيئاً؟
التعريف الذي يمكننا استخلاصه إذن، لمعنى قول «الحقيقة» في الحيز العام، هو أن يعبّر المتحدّث فعلاً عمّا يعتقده، وعن مكنونات ضميره، مع الاعتراف بحرية المعتقد والضمير. الإنشائيات والهراء هنا قد لا يكونان مجرّد دلالة على الضعف الفكري أو العجز عن التعبير، بل أيضاً محاولة واعية للخداع والاحتيال والابتزاز، عن طريق إغراق الحيز العام بالعبارات غير المتسقة، التي تحوي مفردات رنّانة، لاستنادها إلى مخزون فكري ولغوي متراكم، ديني أو أدبي أو سياسي أو أخلاقي، في محاولة للتغطية على الحقائق، التي نودّ تفحّصها والتعبير عنها والجدل حولها؛ أو ربما، وهو الأخطر، فقد تكون لغتنا المعاصرة، بمفرداتها ومفاهيمها، لم تعد تحوي معاني جديّة من الأساس، بعد عقود طويلة من القمع والتلاعب والابتزاز وطغيان الرداءة، وصار علينا العودة إلى نقطة الصفر، وإعادة تعريف كل مفردة ومفهوم، ومحاولة ضبط كل عبارة، لنفهم على الأقل ما الذي نتحدّث عنه.
يمكننا إذن أن نفكر بسؤال «لماذا يكذب كثير من النخب الناطقة بالعربية؟» بالشكل التالي: إذا اعتبرنا أن «النخب» هي الفئات التي تُعتبر، وظيفيّاً، مشاركة في الحيز العام، بسبب عملها في المجال السياسي والثقافي، فهل تُغرقنا بالإنشائيات والهراء، لكي تتجنّب قول ما تعتقده فعلاً، ولكيلا تعبّر عن مكنونات ضميرها؟ أم أنها لا تكذب، وهي فعلاً لا تملك إلا الهراء؟
أخلاقيات النفاق
توجد إجابة، مكرّرة للغاية وهي، أن «النخب» تكذب لأجل مصالحها الضيقة، أي لأجل منافع مادية ومعنوية؛ وارتباطات بمؤسسات وأجهزة وأنظمة؛ وحرصٍ على التمويل ولقمة العيش. أيضاً هنالك عامل الخوف، إذ يتجنّب كثيرون العواقب السلبية لتعبيرهم، التي قد يلحقها بهم الحكّام أو «الجماهير». لا يمكن اعتبار هذا النوع من الإجابات حجّة على الأفراد، فهو أقرب للتفتيش في الضمائر؛ أو تحويل للمسألة إلى ما يشبه التحقيق الجنائي، حول حياة المتداخلين في الشأن العام، وعلاقاتهم ومصادر رزقهم. ربما يمكن الحديث عن حالة عامة من الارتباط بشبكات تمويليّة، ومؤسسات إنتاج ثقافة وصناعة رأي عام. ولكن هذا بحد ذاته ليس إجابة كافية، فحتى لو كان عدد من «النخب»، جانباً من مؤسسات ما، لها مصالحها وغاياتها، وهو أمر متوقّع ومفهوم، فهذا لا يفسّر الأداء الضعيف، الذي يبدو أقرب لكذب مفضوح. بعيداً عن التفتيش في الضمائر، فربما يكون قول «الحقيقة» أمراً شاقاً ومؤلماً حقاً، وسط ما تعيشه المنطقة. ففي ظل حالة الانهيار الاجتماعي الشامل، واضمحلال الدول، وحروب الإبادة، والتحريض الطائفي، والرثاثة الثقافية والسياسية، يصبح أي وصف، يُعنى صاحبه بالمصداقية، أشبه بحالة من السوداوية، أو الرثاء، أو كراهية الذات. ليس هذا فحسب، فهناك ما هو أسوأ: ربما يصبح القول ذو المعنى، أقرب لمساهمة مباشرة بكل ما يحدث. أي أن يجد القائل نفسه، دون أن يبغي ذلك، طرفاً في حرب أهلية، أو نصيراً لنظام قمعي، أو عدو خارجي، أو حتى متعالياً على من يوصفون بـ»الشعب» أو «الجماهير»، وما يُفترض أنها ثقافتهم. كثيرون يفضّلون عدم التورّط بكل هذا، ويلجؤون إلى الصمت، أو القول الذي لا يقول شيئاً. وإذا كان يمكن قبول واحترام الخيار الأول، أي الصمت، فماذا عن الثاني؟
المتداخل في الشأن العام، أي العامل في المجال السياسي والثقافي، لا يمكنه الصمت، وبالتالي فقد يميل كثيرون إلى ما يظنونه نوعاً من «التوازن» في الخطاب، أي يحاولون تقديم وصف مخفّف لما يعايشونه من أوضاع، لا يتطابق بالحد الأدنى مع ما يعتقدونه حولها فعلاً، وذلك تحت مبررات كثيرة، منها التماشي مع «مستوى وعي الناس» أو «الأغلبية»؛ ضرورات معركة ما؛ نزع فتيل توتر اجتماعي أو طائفي؛ عدم التورّط بتكرار خطاب «العدو»، أو «اليمين»، أو أي طرف آخر مُشيطَن في مقولات الثقافة السائدة. هذا يجعل إخفاء «الحقيقة»، أي عدم قول ما يعتقده المرء فعلاً، أمراً غير مستنكر، بل ربما أقرب للأخلاق، والصواب السياسي والاجتماعي؛ ويخلق، في الوقت نفسه، نوعاً من الازدواجية في الخطاب، بين ما يُقال في الجلسات الخاصة، وما هو موجّه للعموم، يصل أحياناً إلى درجة التناقض التام. وهذا يوصل إلى نتيجة غريبة: لكي تكون صائباً وأخلاقياً أكثر، يجب أن تكون مُجيداً للنفاق؛ ولكي تبقى مُصنّفاً بين «النخب»، فعليك أن تغطي كل ذلك بنمط من الإنشاء الضعيف.
تقنيات الهراء
توجد تقنيات كثيرة لما يمكن تسميته «القول الذي لا يقول شيئاً»، منها مثلاً التركيز على نقد ما هو مُجمَع على انتقاده؛ ومعاداة ما باتت معاداته من البديهيات السياسية والثقافية المحليّة، مثل دولة الاحتلال الإسرائيلي في الحالة الفلسطينية؛ ونظام الأسد في الحالة السورية. فحتى لو كان هناك «عملاء» أو «فلول» كُثُر، يجب التصدي لهم، فإن التركيز على هذين الكيانين، لا يمكن أن يكون نقداً، بل هو تكرارٌ ومزاودة، لاستناده إلى ما بات معلوماً ومألوفاً في المخزون الثقافي لـ»الجماهير»؛ وأيضاً، وهو الأهم، إخفاءٌ لما يجب انتقاده فعلاً، أو بالأصح، ما يصنع انتقاده فارقاً، ويؤسِّس لتغيير فعلي. يمكن اعتبار ذلك خياراً آمناً، وقليل التكلفة، ضمن اللغة العربية على الأقل. ليس من المطلوب بالطبع أن يكون جميع العاملين في الشأن العام مبدعين في النقد، ولكن أن يصبح التكرار والمزاودة، والتستّر على ما يجب انتقاده فعلاً، خياراً مستحسناً أخلاقياً، فهذا بابٌ عريضٌ لدخول الهراء إلى كل خطاب، وانتشاره.
من التقنيات الأخرى، اللغة التي تحجُب ما يفترض أنها تصفه، بدلاً من كشفه. كأن نسمي الجرائم «تجاوزات»؛ والمجازر «أحداثاً»؛ والخيارات الكارثية «أخطاءً»؛ والهمجيّة «ردات فعل». لا يتعلّق الأمر هنا بتلطيف اللغة، أو القول المهذّب و»الدبلوماسي»، بقدر ما هو بناء منظور عن «الواقع»، يطبّع مع وقائع من هذا النوع، ويمنحها نوعاً من الشرعية، عبر إضفاء الألفة اللغوية على أوضاع وممارسات لا تتسم أبداً بالألفة. وهذا النمط من التطبيع قليل التكلفة أيضاً، ويجعل من الإنشائيات خياراً مفضّلاً.
«المناشدة» بدورها تقنيّة فعالة في هذا السياق، فعندما «نناشد» جهة متغلّبة ما بتغيير سلوكها، فإننا بالتأكيد لا نقول لها إلا ما تريد أن تسمعه سلفاً، وهو أساساً الاعتراف بكونها صاحبة السيادة، التي لا يمكن محاسبتها أو مقاومتها، بل فقط استعطافها. دونية المُناشِد، أمام السلطة التي يناشدها، أهم من فحوى مناشدته، والعامل المركزي فيها، فهي إقرار منه بفقدانه التام للسيادة على شؤون حياته؛ وانعدام الأطر السياسية والقانونية التي تؤمن له المشاركة في قضاياه؛ والأهم، عجزه عن قول ما يعتقده فعلاً. وللمناشدات ديباجاتها وقوالبها اللغوية، التي لا يمكن أن توصف إلا بالابتذال.
المثال الأخير هو ما يُسمى أحياناً «إرهاب الغموض»، أي النصوص التي لا يمكن تحليلها ونقدها، ليس لأنها صعبة أو معقدة، بل لأنها لا تقدّم أصلاً مضموناً متسقاً، ومعنىً قابلاً للاستخلاص، ما يتيح لمنشئها أن يتهرّب من تقديم وصف فعلي لموضوعه، وتحديد منهجه، وإبداء موقفه. يصير رصف وتجميع المفردات والأسماء، وكتابة العبارات، التي تبدو «عميقة»، إما غطاءً لخواء فكري، أو محاولة لتجنّب أي قول يمكن الإمساك به جديّاً. وبالطبع، يمكن للكاتب هنا أن يُرهب أي ناقد، باعتباره «أساء الفهم»، أي التشكيك بقدرته على القراءة، ومستوى ذكائه. وعلى الرغم من أن أي نص قد يتعرّض لسوء الفهم، فإن «إرهاب الغموض» صُمّم لكيلا يُفهم، ولا يُمسك، ولا يُقاس، أي لكيلا يقول شيئاً.
ربما يمكننا أن ندرك سبب لجوء جانب من «النخب» الناطقة بالعربية لهذه التقنيات وغيرها، إلا أن فهم الدوافع لا يعني التفهّم، أو الدعوة للتطبيع مع الكذب، والتسامح مع جعل الحيز العام موطناً للهراء؛ وتحويل الخطابات السياسية إلى ما يشبه التعاويذ؛ وتقزيم اللغة العربية المعاصرة إلى مجرّد إنشائيات، خالية من المفاهيم المنضبطة، وأدوات التفكير الفعّالة، والمقولات ذات المعنى. الأصح مطالبة جميع المتداخلين في الشأن العام بقول «الحقيقة»، أو مواجهتهم بما يبدو من «حقيقتهم»: أنهم ممارسون للاحتيال الأيديولوجي، ومطبّعون مع الشرط الهمجي القائم، أياً كانت دوافع احتيالهم وتطبيعهم.
مهما كانت «الحقيقة» قاسية ومُكلفة، بل حتى متعالية، أي مهما كان ما نعتقده، وما هو مستقرٌّ في ضمائرنا، مزعجاً، أو حتى بشعاً، فمن الأفضل قوله، بلغة عمومية قابلة للفهم والنقد، تناسب موضوعها؛ ومن ثم المجادلة به، ما دام لا يندرج تحت خانة التحريض على العنف والتمييز والإبادة. لن يثير هذا «الفتنة» بالتأكيد، أو يزيد من اضطهاد «الجماهير». إذ إن عقوداً من النفاق، و»الخطاب المتوازن»، لم تمنع المنطقة من أن تكون مطحنةً، ومقبرةً جماعية لأبنائها، بل ربما ساهم كل ذلك «التوازن» في تكريس الهمجيّة، وإعادة إنتاجها.
*القدس العربي
Leave a Reply