ينشأُ النص الإبداعي على حاشية الواقع الذي يحفلُ بالمفارقات والغرابة، ولا شكَّ أنَّ ما يأخذُ بالأولوية في سياقات فنية وإبداعية هو الجانب الذي يعكسُ الصراع مع المصير والمساعي الرامية للالتفاف على مجمل الوقائع، التي ترخي ظلالها الثقيلة على البيئة. ومن نواة هذا التوتر يبدأُ خيط العوالم الموازية للواقع متسلسلاً. ومن المعلوم أنَّ العمل الروائي يقومُ على اقتناص ما يقع في الظل ضمنِ المشهد المُكتظ بالتصادم بين الإرادات. والأهم بهذا الشأنِ ليس أن يُدار الضوء نحو التفصيل الذي يكونُ قواماً لهيكلة النص وخميرة لعجينته، بل المحك هو الصيغة الكاشفة للحس الإبداعي. ناهيك عن الزاوية التي يتمُ اختيارُها لتناولِ الثيمة الرئيسية وما يتفرعُ عنها ضمنَ حركة الشخصيات وتوارد الأحداث، لذلك فإنَّ الرواية تستمدُ زخمها الحيوي من المبنى الحكائي، وآلية السرد واللغة المطبوعة بخفةٍ لا تكشفُ عناء التعدين للمادة المروية. وما لفت النظر أخيراً في موجة الأعمال الروائية هو أجواؤها المُتشابهة وليسَ السببُ لهذه الحالة أحادية المصدر الذي يتكئ عليه العمل الأدبي بقدر ما إنَّ المعضلة تكمنُ في محدودية الخيال والمستوى التعبيري المثقل بالصور البيانية، إضافة إلى أنَّ الكابوسية المُفتعلة في الكتابة أصبحتْ كلمة المرور لملعب الرواية. مع أنَّ التعبير عن العبث واللامعقول يجبُ أن يكون بصيغة فنية معقولة. ولا يشفعُ الموضوع أياً كان تعقيده وغرابته لتدني جودة الرواية. هذا ما أدركه الكاتبُ العراقي أزهر جرجيس إذ يرمي بأوراق روايته الأخيرة “وادي الفراشات” على خط مُختلف من الكتابة.

الفكاهة السوداء

ينشقُ جرجيس عن الخط السائد للروايات التي تُغطي معاناة الفرد العراقي في زمن الثالوث المشؤوم “الحرب، الحصار، الإرهاب” ومن المعروف أنَّ اللون الطاغي لجلُ ما يدرجُ في هذه الحلقة هو الكابوسي الكافكاوي والهذياني والتدوير لثيمة الجثة. غير أنَّ مؤلفَ ” النوم في حقل الكرز” يختبرُ شكلاً فكاهياً في حياكة مادته الروائية، مُعلناً عن حسابه من مستهل العمل بلغةٍ شفيفة وزخات سردية متتابعة. ويتمكنُ المؤلف من كسر الجليد مع المتلقي من خلال ما يفتتحُ به النص من عبارةٍ مشحونة بالانفعال، وذلك يتيحُ المجالَ للتوقع باتجاهات متعددة. ومن ثم يكشفُ الراوي عن صوته، ولا يكون موقع المتكلمِ غائماً في الفضاء الروائي، وبالطبع أنَّ هذا المنحى يخدم البناء الفني للعمل، ويؤكدُ وجود الوعي الإبداعي لدى صاحبه. وما يشدُ الذهن إلى أجواء النص أكثر هو، المشهد الحواري الذي يتداخلُ مع الحزمة السردية وهذا ما يبعدُ الرتابة من حركة النص، ويفتحُ الممر لأصوات شخصيات مشاركة في التوليفة الروائية، إذ إن الكلامَ المتبادل بين الراوي وخاله جبران الذي يزورُ ابن أخته في السجن. حلقة من سلسلةٍ ينضمُ إليها مزيدُ من الشخصيات بالتدريج، وما إنْ ينقطعَ خيط السردِ حتى يبدأُ الحوارُ الكاشف عن بعدٍ جديد لشخصية الراوي المُتضمن في الأحداث. ينبئ ما يكيلهُ صبيحُ لأخيه الأصغر من لكمات مهينة، لتخلفه في تشيع جنازة الأب بما ينتهي إليه شكل العلاقة بين الإثنين. على الرغم من أنَّ عزيز هو من ينظمُ وحدات الرواية بوصفه راوياً بالضمير الأول، ومبئراً للحدث، لكن بموازاة ما يستعيده عن نكبات حياته الشخصية تتشابكُ مع خيوطُ السردِ أوراق ثبوتية لعددٍ من شخصيات مُساندة، منها شخصية الأب عواد الأخرس الذي كان يزيت المكائن في محطة القطار، ويدخلُ إلى نفق الصمت الأبدي إثر ارتطام رأسه بالسكة الحديد، ويتحولُ إلى جثةٍ متحركة. تنفتحُ التشكيلة هذه لشخصية جبران وما رافق اسمهُ من المواقف، إذ يطلقُ عليه الوالد هذا الاسم لأنَّ الله جبر به خاطره. ولم يكن الابنُ راضيا بالتسمية في مرحلة الصبا وبدا أنَّه غير مرتاح بها ويلازمه هذا الشعور إلى أنْ يصبحَ طالباً في المدرسة، ويشاءُ القدرُ أنَّ يكونَ معلمُ اللغة العربية من الموالين لجبران خليل جبران أدبياً هنا من المتوقع أنْ يستأثرَ ابن الحاج عبد الواحد العطار بحظوته، لدى عاشق مؤلف “النبي”. يذكرُ أنَّ الخال جبران لا يغيبُ في شريط السرد، بل تنهضُ الحبكة الروائية بأكملها على الترابط بينه وبين البطل الضد عزيز. يبدأُ شغف الأخير بالقراءة والكتب من متجر خاله لبيع الكتب في شارع السعدون. ومن هذا المكان تنحو حياةُ عزيز مسلكاً غير ما كان يخططُ لها، إذ أخذ ينزع غلاف الكتب المنهجية ويحشوها بالروايات، وتقوده هذه اللعبة التمويهية في نهاية المطاف إلى دراسة المسرح. ولا يكونُ الغرام بالكتب إلا طريقاً لحب تمارا التي كان جمالها مشهوداً بين الزملاء، وداعب طيفها خيال طلبة الفنون. يتصاعدُ في هذا المفصل من الرواية النفس الرومانسي، ويشحن المؤلفُ النص بطاقة بصرية عبر الإحالة إلى نجمات السينما منها ميرفت أمين التي يزينُ عزيز غلاف محفظته بصورتها مبلغاً شبيهتها تمارا رسالة الإعجاب الضمنية.
ولا ينتهي الأمر عند هذا الحد إنما يتوسلُ بالشعر والعبارات الوجدانية للظفر بمهوى الفؤاد. يلوحُ الوجه القاتم للواقع عندما يتأكدُ عزيز أنَّ اختصاصه لا ينفعه على المستوى العملي وبالتالي لا يستقبله والدُ تمارا سوى بالرفض. لا ينجحُ البطل الشاحبُ في كسر طوق النحس. بعد أن يمضي ثمانية عشر شهرا في الخدمة الإلزامية للعلم. يعودُ مشاركاً مع صديقه في مشروع لبيع الأفلام الثقافية. ويهدأُ روعه حينُ يؤكدُ له مهند أن الجماعة تغض النظر عن البضاعة في ما تنتظرُ المشنقة باعة الكتب الممنوعة. وفي ذلك الكلام استباق ضمني للحدث الذي يقع لاحقاً حين يعتقل عزيز في مكتبة خاله، ملتبساً بكتاب “جمهورية الخوف” واللافتُ أنَّ من أرشده للعمل في سوق الأفلام الثقافية، التي كان يشتدُ عليها الطلبُ في أيام العطل الوطنية. يتقمصُ دور الرجل المتدين مع تصاعد الحملة الإيمانية واعداً عزيز بأنَّ استنساخه للعنوان المحظور يُضيفُ كثيراً إلى ميزان حسناته.
والغريب في أمر البطل أنَّه يُفصل من وظيفته لأنَّه لم يحسن التصرف مع عشيقة الأستاذ ويسجنُ لأنَّه كان بحوزته كتاب مُهربُ ويتجددُ عهدهُ مع الزنزانة، بعدما تطاله المداهمة الأمنية للملهى. كما يمضي في السجن أياماً أخر من عمره في زمن الديمقراطية الوافدة على خلفية اتهامه بالتجارة البشرية. يراكمُ البطل الضد الخيبة والأهمُ في هذا الإطار أنَّ المؤلف تمكنَ من تضفيرِ الحبكة بالأطوار التي يمرُ بها عزيزُ، وذلك يحيلُ إلى ما صرحَ به الكاتب البريطاني فيكتور ساودونبريتشيث أنَّه ليس هناك ما يسمى الحبكة، ففي رأيه الشخصيات هي المحور، بينما تقتصر وظيفة الحبكة على الإبانة عن ملامح الشخصية.

 الطابع الروائي

تكامل هوية النص الروائي منوطُ بالطابعِ أو الشعور الذي ينشرهُ لدى المتلقي، وقد يكون أثرُ هذا الشعورِ حزيناً أو مرحاً أو مزيجاً بين الاثنين، كما هو ملحوظ في رواية “وادي الفراشات” إذ لا يتقيدُ النص بالأجواء الجنائزية ولا يغرقُ في سوداوية نكبات البطل الضد لأنَّ جرجيس يبتعدُ عن اللغة المتجهمة المحشوة بالأورام. أكثرُ من ذلك ينصرفُ ذهنُ القارئ عن الشكل الواقعي لبيئة عزيز ولا يكونُ الاهتمام إلا بالبعد الجواني لعالمه الحافل بانقاض الأحلام. غير أنَّ هذ المناخ الديستوبي تخففُ من حدته ترانيم المرح المبثوثة في وحدات النص، إذ يسكبُ المؤلف جرعات محسوبة من الفكاهة في أوردة الرواية، وبذلك فإنَّ القراءة يصاحبها الضحكُ وهذا نادرُ في صنعة الرواية العربية. ويظهرُ أزهر جرجيس براعةً في تصوير تغول السلطة في قالبٍ فكاهي، وهذا ما يتجسدُ في الحكاية التي ينقلها الراوي عن سجينٍ مُعاقَب لأنَّ ما رآه في المنام عن عبوره لحدود العراق صوب دولة جارة تسربَ على لسان زوجته إلى فضاء الحارة، ولم تخطئهُ آذان الوشاة. هنا يذكرُ المقطع الآنف بتفاصيل رواية “قصر الأحلام” لإسماعيل كاداريه. وإنشاء جهازٍ لمراقبة الرؤيا في الدولة العثمانية. ويكثفُ ما يسودُ من التنظير عن الطبيعة الازدواجية للمجتمع العراقي في جملةٍ متفجرة. “عجيبة هذه البلاد نهار عفيف وليل ماجن” مؤدى هذه العبارة، أنَّ كل ما هو مرفوض بالعلن مرغوب وراء الستار. ولا تقفُ السخرية عند مظاهر اجتماعية وسياسية أو اقتصادية، بل تطالُ المثقفين وتستهدف على وجه الخصوص من يمتهنُ كتابة الرواية فهو كائنُ أناني على حد وصف الراوي، يطلقُ النار على منافسيه واحداً تلو الآخر.
وملمحُ آخر من رواية “وادي الفراشات” تجده في الارتداد عن الصورة التي قوامها تكرار التشبيهات، ونحت ما يُفعل الطاقة الإيحائية في اللغة. يشبّه الراوي المنزل الذي يأوي إليه مع حبيبته بالعراق من حيث المناخ حار جاف صيفا، بارد ممطر شتاءً. يرى إدوارد فوستر أنَّ الروائي لا يمكنه إنكار الزمن وهو يفصل قماشة نصه. وبالطبع إذا نجحَ المؤلف في تنظيم الوتر الزمني ستصير أجواء عمله مقنعةً أكثر. وبدوره تتحركُ رواية “وادي الفراشات” برشاقة بين الأزمنة، وينجحُ أزهرُ في الفصل بين زمنه الذاتي وزمن شخصياته الروائية. ومن المعلوم إنَّ ما يرمي إليه الروائي من التنويع في الثيمات والصياغات هو ضخ التشويق في جسد النص ولا يتعثرُ مؤلف “حجر السعادة” في انتقالاته إذ يتناوب السردُ والحوار بالانسيابية على حركة النص، كما تستشفُ تفاعل “وادي الفراشات” مع روايات أخرى منها “الشرق المتوسط” و”الموت عمل شاق” و”مئة عام من العزلة” وتتوارد تلميحات تؤكدُ بنية الميتاسردية للرواية، لكن ذلك كله لا يكون على حساب خفة النص وبساطته الفاتنة. ما قدمه أزهر جرجيس في “وادي الفراشات” يضاهي أعمال أغوتا كريستوف، من حيثُ التمكن في تناول موضوع ثقيل بصياغة تتميز بخفة الدم. فما يسردهُ على امتداد العمل عن بؤس سنوات الحصار العجاف وتهالك الإنسان في السجون، وتهاوي الحب في وحل الواقع، ومحنة الفقدان والخسارة، لا ينفصل عن روحية فكاهية غير مُتكلفة. ما يجدرُ بالإشارة أن “وادي الفراشات” وصلت إلى القائمة الطويلة لجائزة البوكر. وكل من يقرأُ هذا العمل لا يساوره الشك بأنَّه سيتنافس حتى الأمتار الأخيرة.

*القدس العربي