يتميز عالم الرواية بتلك المساحة الإبداعية الفضفاضة، التي تمنح الكاتب فرصة للتحرك بحرية بين شخصياته، التي استلهمها من تجاربه الذاتية والواقع الذي عاشه وتراكمت بفضله خبراته ومعارفه، فالتجربة الحياتية غالباً ما تكون هي المُحفز على الإبداع لدى الشخص الذي يمتلك الموهبة والقُدرة على الابتكار.
بعض الكُتاب يعتمدون على الأسلوب الاستفزازي لاستنفار القارئ وإثارة انتباهه باستخدام المُثيرات النفسية، عندما يعن لهم تسجيل ما رأوه وما عاشوه واقعياً، وينتظرون الفرصة المُناسبة للبوح والتعبير عن آرائهم وأفكارهم، التي ظلوا يودعونها لفترة طويلة في صندوق الذاكرة، لتخرج دفعة واحدة بشكل سردي جذاب، لا يخلو من جمال، بغض النظر عن طبيعته ومراميه.
في رواية «دولاب مريم» للكاتب فهمي عبد السلام، الصادرة حديثاً عن دار الأدهم للطباعة والنشر، يبدأ المؤلف بإثارة ذهن القارئ المُعادي لثورة يوليو/تموز والمُتربص بإخفاقات عبد الناصر وأخطائه، من باب دغدغة المشاعر السياسية السلبية للخصوم التاريخيين. وفي ضوء ماأسماه عبد السلام بالمراجعة الفكرية، امتثالاً للتيار الجديد السائد، نراه يتوقف عند أزمة الشيوعيين مع رئيس الدولة المصرية الأسبق في خمسينيات وستينيات القرن الماضي، سارداً ما يعلمه، أو ما قرأه عن تجاوزات الحُكم الناصري، ويرى أن أهم ما يُميز تلك الفترة سلباً هو اعتقال نخبة كبيرة من مُفكري اليسار والتضييق عليهم، فيوقع نفسه في هوة التناقض الحاد. فمن يعتبرهم من مظاليم الحُكم الناصري وضحاياه، هم أنفسهم الذين أوسعهم هو شخصياً نقداً وسخرية بعبارات صريحة تحويها روايته ذاتها «دولاب مريم»، الزاخرة والعامرة بسقطات بعض نماذج اليسار، على حد وصفه، من المُقامرين، المُفلسين الغارقين في ملذات السهر والسُكر والعربدة والعاملين بمنهج السفسطة والادعاء، والمُستبدين في النقاش، والمُغالين في استخدام المُصطلحات السياسية من قبيل الاستعراض والتعالي. فشخصية سالم كاتب القصة والمُثقف اليساري، على سبيل المثال، واحدة من الشخصيات الرئيسية التي ألهبتها سياط السخرية والتهكم، فهو العجوز المُتصابي، المُتلصص على جارته، الحاقد على حسام بك رجل الشرطة المرموق وصاحب النفوذ، الذي استأثر بالمرأة الجميلة الخائنة، سامية التي تُسيء إلى زوجها الثري ابن الأكابر، وهي المُنحدرة من أصول شعبية وتنتمي لعائلة فقيرة، ولا تملك من المؤهلات غير دلالها وأنوثتها وتحررها وجرأتها اللافتة. كذلك عصام برهان رجل النيابة، مُدمن الخمر والنساء والمُفلس والمدين باستمرار، ومثله الصحافي المُقامر فريد الشاذلي، ويونس عوف الناقد اليساري السماوي الكثيب السكير وفق وصفهم الروائي الدقيق.
كل هذه النماذج وضعها الكاتب تحت مقصلة النقد والسخرية اللاذعة، وهو التناقض بعينه كما أشرنا، بين إدانته للرئيس عبد الناصر وموقفه الرافض لسياسته مع الشيوعيين والماركسيين، وتقريعه الشخصي لبعض الذين ينتمون للفكر اليساري بفصائله وطوائفه كافة!
إنها الحيرة وقع فيها الكاتب صاحب الرواية المكتوبة بعناية، حيث لم يجعل لنفسه مُتكأ يستند إليه، فقد أطلق نيرانه العشوائية في كل الاتجاهات مُستغلاً ما عمرت به ذاكرته من حكايات وتفاصيل لها بالطبع وهجها الإبداعي النوعي الخاص، لكنها افتقدت الدقة في تحري الحقائق وتوظيف المعلومات السماعية، أو المنقولة من مذكرات أعداء عبد الناصر الذين توارت ظلالهم خلف أضوائه القوية فصاروا خصوماً تاريخيين له وما أكثرهم.
من بين ما ذكر المؤلف أيضاً من حوادث في سياق الهجوم المُتكرر على جمال عبد الناصر، لإرضاء القارئ المُعادي للفكر الناصري، تلك الحادثة التي تسبب فيها أحد الطيارين المدنيين، وأفزعت رئيس الدولة الأسبق على حد قوله، إذ ادعى الطيار في إحدى الرحلات الجوية التي أقل فيها الرئيس أن عُطلاً ما أصاب مُحرك الطائرة، وأنه سيضطر للتحليق لوقت كاف حتى يتم إصلاح العُطل في الجو! وبعد فترة تم الهبوط بعد إدعاء الطيار أنه قد تمكن من إصلاح العُطل، وحين خضعت الطائرة الرئاسية للكشف والفحص الدقيقين، تبين خلوها من أي أعطال فنية، وأن الطيار المزعوم فعل ذلك لإرهاب ناصر وتخويفه انتقاماً منه لأنه صادر ممتلكاتهم وأمم شركاتهم وأموالهم، فكان رد الفعل من قبل الجهات الأمنية هو إيداع الطيار المخبول مستشفى الأمراض العقلية.. حكاية لو صحت فبالقطع ينقصها الكثير من التفاصيل فهي بصورتها الواردة في الرواية لا تنطلي على طفل صغير.
أما الجزء الآخر المُتصل بالأحداث الروائية الشيقة والمثيرة، فهو ذلك المُتعلق بشخصية شريف شعبان، الشاب الواقع تحت تأثير حسام بك وشقيقة فكري، والذي يهوى المُغامرات ولا يضع اعتباراً للصداقة، إذا ما تعلق الأمر برغباته الشخصية، فهو ماهر في الاصطياد وشهواني ومتهور. كما أن فكري الشقيق الأصغر لحُسام بك، لديه مرارات كثيرة متراكمة، ومن ثم فهو يحقد على شريف شعبان الحاصل على وظيفة تُدر له دخلاً وفيراً، بينما هو قليل الحظ مرفوض من الجميع لخصاله السيئة، فضلاً عن أنه يحقد على شقيقة الأكبر حُسام بك الرجل الثري الذي يُحسن إليه ويُجزل له العطاء! إنه رصد تشريحي لشخصيات امتلأت بها صفحات الرواية التي تقع في 272 صفحة من القطع المتوسط، لكنها باعثه على التأمل ومُثيرة للدهشة، ولا شك في أنها كونت بارتباطها الوثيق بالأحداث، نسيجاً روائياً متميزاً ومُحكماً ومُغرياً بالقراءة، فما لا يُدرك كله لا يُترك كله.
*القدس العربي
Leave a Reply