أروع ما يشي به كتاب “السكين” لسلمان رشدي (منشورات الجمل 2025 – ترجمة خالد الجبيلي) هو أن ضروب السلامة والأمان تتجذر أكثر ما تتجذر عبر تلك الإحاطات الحميمة للأقربين من أبناء وزوجة وشقيقات وأصدقاء.
يفتتح رشدي كتاب “السكين” بعبارة لصموئيل بيكيت تقول: “نحن آخرون، لم نعد كما كنا قبل كارثة البارحة”، ومع هذا ثمة ما يستوفي شروط التخلّص من عقابيل الكارثة وذلك عبر تلك الاحتضانات القلبية الصادقة من قِبل أؤلئك الذي يحبوننا بصدق. وبهذا السياق يلمّح رشدي في كتابه إلى أن الحياة هي في بعض وجوهها مثل السرد الروائي. فإذا كان هو نفسه الشخصية الرئيسة في الرواية التي أسكنه إياها الخميني بالقوة عبر تلك الفتوى الشهيرة فإن هؤلاء الأقربون هم بمثابة القرّاء الذين يحذّرون هذه الشخصية من مغبة الوقوع في شرط الإحباط بل تراهم – حسب رشدي – يملكون تلك القدرة الهائلة على أعادته من الموت سواء أكان هذا الموت معنوياً أو حقيقياً…. “عندما نعرف نحن القرّاء ما لا تستطيع الشخصية في الرواية أن تعرفه، فإننا – نحن القرّاء – نحذرها”، كما جاء في “السكين” وهو مبدأ في الكتابة والتأليف يتبناه رشدي إلى أقصى الحدود.
يتطرّق سلمان رشدي في هذا العمل السردي التأملي إلى قيام أحد الشبان بالتعرّض له بعدة طعنات بالسكين وذلك بتاريخ 22 آب من العام 2022 وذلك أثناء مشاركته – وهنا المفارقة – في لقاء أدبي حول سبل حماية الكتّاب في العالم من العنف وذلك في مدينة نيويورك. يتوسّع رشدي في “السكين” في شرح تلك الانفعالات المتأتية عن ال 27 ثانية التي كان إبانها عرضة لتلك الطعنات من قِبل ذلك الشاب اللبناني الذي قام بعد مرور كل هذه السنوات بتلبية دعوة الخميني لقتله ويتساءل في هذا السياق، وانطلاقاً من تصوراته الشخصية عن مدينة بيروت، كيف لشاب ينتمي إلى بلد عاصمته بيروت أن يندرج في المسار الخميني بإطلاق؟! ليصف بعدها هذا الشاب بعبارات مقتضبة لكنها تقول الكثير: “إنه ليس سوى مهرّج أحمق حالفه الحظ”.
يُدرج رشدي تلك الطعنات الخمينية التي قام بها هذا الشاب اللبناني الأحمق ضمن رحلته المتعبة مع الأنبياء والربّ وناس هذا الربّ وهو الملحد والذي لا يتحمّل إلحاده أي تأويل. أما طعنات تلك ال 27 ثانية فهي كما يرى رشدي تكثيفاً مباشراً لتلك المتاعب التي حدت به لأن يسأل – على نفسه بالدرجة الأولى – هذا السؤال: “بأي حقّ يمكن لأحد منا أن يدّعي السعادة في هذا العالم التعيس؟”. لكل إنسان سبله الخاصة في التصدّي لتعاسة العالم بحسب رشدي أما بالنسبة إليه بالذات فإن الكتابة وسيلة رحبة لهذا التصدي بل وللبقاء…”فمن خلال الأدب يمكنني أن أصلح نفسي” كما جاء في “السكين”.
على الرغم من فداحة الفتوى الخمينية التي تلاحق سلمان رشدي منذ العام 1989 فإنه في كتاب “السكين” لا يتوانى عن الاسترشاد بكل ما قد تمدّه به الحياة من أجل البقاء والاستمرار وكأني به يكرر مع الفيلسوف الفرنسي غوستاف باشلار قوله الشهير: “هناك شواطئ أمان حتى في قلب الكوابيس”. ومع هذا تراه إبان تعرضه لتلك الطعنات بالسكين محل مفاجأة ورهبة حيال تشبثه بالحياة… “كان جزءاً مني يهمس: عِش، عِش” يقول رشدي في “السكين” وبملأ الصوت.
ليست الطعنة كما بثّها رشدي في كتابه “السكين” واقعة محددة الهيئة والمعالم والقسمات، فالطعنة في هذا الكتاب هي أقرب إلى علامة سؤال حول “الصورة المستقرة للعالم” كما قال. لكنها فضلاً عن ذلك هي دعوة للتمعّن في الوجوه الكثيرة التي يستبطنها وجه الشخص الذي يطعن بعامة وأيضاً قراءة في تاريخ الدعوات إلى القتل عطفاً على كتابة كتاب ولكن تلك الطعنة في نهاية الأمر، هي بالنسبة إلى سلمان رشدي تحفيزاً لشحذ سكين اللغة وتهيئة صريحة لمقارعة السكين، لمقارعة الطعنات بالكلمات وبالكلمات.
لدى معرفته أن شاب الـ 27 ثانية – كما يكاد أن يسميه في الكتاب – كان يحمل في رحلة الطعن تلك شنطة تحوي كمية لا بأس بها من السكاكين تساءل رشدي: “هل كان يظنّ – هذا الشاب – أنه يمكن أن يوزّع تلك السكاكين على الحاضرين ويدعوهم للمشاركة”… في طقس القتل المقدس؟ (وهذه العبارة الأخيرة شدّني الخميني لإضافتها على كل ما قاله سلمان رشدي إزاء عملية الطعن تلك)، ليعود ويمعن في التشبّث بالكلمات حيث “الكتابة سوف تكون طريقتي الخاصة في امتلاك ما حدث، وتولّي مسؤولية ما قد حدث…”، بإمعان.
في الكتاب الذي وضعه عن حياته وعنونه “جوزف أنطون- سيرة ذاتية” (منشورات الجمل 2021 ترجمة أسامة إسبر) يتكلم رشدي عن نفسه بصيغة الغائب فيقول: “لم تكن أوامر الموت ومؤامرات القتل والتهديدات بالقنابل… في ذهنه، لكنها احتشدتْ في قصة حياته”… وربما يكون كتاب “السكين” تلخيصاً وجدانياً لهذه القصة التي قد عيّن الخميني مجمل معالمها إلى حدّ كبير بحيث “أصبح الأمد القصير هو فلسفتنا. فالأفق بعيد جداً ولا نستطيع أن نرى لمساحة بعيدة” كما جاء في “السكين”. فآية الله ذاك أنبأ رشدي بل تراه قد بثّه بالسر وبالعلن أن المستقبل أبعد من توقعات الناس، ذلك أن هنالك على الدوم من يرسم هذا المستقبل على غفلة من ناسه، هنالك على الدوم من يدوّن سطور الآتي من الأيام فوق كتاب حياتنا الشخصية دون علمنا من قريب أو من بعيد… “بدا الهجوم – يقول رشدي – مثل بقعة حبر حمراء كبيرة انسكبتْ على صفحة سابقة. كان ذلك شيئاً قبيحاً لكنه لم يُفسد الكتاب… بإمكان المرء (على الدوم) أن يقلب الصفحة ويمضي قدماً” كما قال رشدي في “السكين”، في سكينه مشيراً إلى التحرر من رغبات أولئك الذي يعملون بالعلن – وبشكل خاص – بالسر على رسم مآلات حياتنا وتعيين حدود هذه الحياة. فبالنسبة إلى سلمان رشدي في “السكين” أو في سيرته الشخصية، إن تلقّي لعنات الآخرين هو فعل تراه يستودع بالقوة إعادة صياغة الحياة بما يستوجب التخلّص من مثالب هذه اللعنات وهي ثيمة تراها رافقت أعمال رشدي بعد تلك الفتوى وصولاً إلى كتاب “السكين”.
إن الحميمية التي تصوغ “السكين” تدفع بالقرّاء، أو بعضهم، إلى التماهي مع جملة من المواقف أو العبارات أو الخيالات والمآلات. وفيما يتعلّق بكاتب هذه المادة أراني محل تماه هائل مع رشدي إزاء الخوف من العمى هو الذي قد فقد عينه اليمنى بسبب طعنات ال 27 ثانية تلك في مدينة نيويورك. يخبرنا في “السكين” أنه تشبّث بعينه اليسرى بكل ما واتاه من قوة بغية تمرير ما تبقّى له من حياة، يخبرنا أيضاً أنه عبر هذه العين عمد بعد استعادة جزء من عافيته إلى الغوص في جملة من النصوص الأسطورية والأدبية التي تتطرق إلى العيون …إلى الإغماضات والتحديقات وفلتات النظرات. لست أدري بماذا أمدّت تلك النصوص سلمان رشدي فهو لم يخبرنا بالأمر لكني أظنّ أن تلك النصوص قد زوّدته بالمئات أو الآلاف من العيون التي تراه يحدّق عبرها في العالم وفي الحياة وفي ذلك الغريب الذي يحوّلنا إلى “أناس البارحة”… أي، الموت، هذا الغريب القريب منا بما يفوق التوقعات.
*المدن
Leave a Reply