موسى الزعيم

قاص سوري من إدلب، من أعماله: قمر الليلة الثالثة.

كأنّ غيمةً من صمتٍ وترقّب، هبطتْ عليّ حين دخلت المبنى الكبير ذا الباب الخشبي الثقيل

عبرَ كوّة ضيّقة مَددتُ يدي، ناولتُ الرجلَ الجالسَ فيها ورقةَ الموعد وبطاقتي الشخصيّة، أشار إليّ بيده:

– استرح هناك ريثما يحضر المترجم.

 ما في داخلي صار يرتجفُ، يهتزّ وكأنني أتمددُ في مجال قطبَي مغناطيسين كبيرين، كلّ يشدّني باتجاه، فأطرد تلك الهواجس حين أرى ابتسامة الخارجين من البوابة الكبيرة.

لا يعرفُ الهدوء طريقاً إلى روحك هنا، حتى لو كنتَ صاحبَ حقّ وتعلم أنّ حقّك سيعودُ من بين ملفاتهم.

على كلّ حال، ليس لديهم شيء ضدّي، فمنذُ وصولي إلى هنا لم أرتكب جنايةً ولا جنحةً كبيرةً ولا صغيرة.

 قلقاً أتململُ على المقعد الخشبي، والوقت كعادته يسري ثقيلاً هنا، أنظرُ إلى الساعة الكبيرة المعلّقة على الجدار، فأعرفُ أنني وصلتُ قبل موعدي بربع ساعة.

 النوافذُ عاليةٌ لا مجال للنظر إلى الخارج والباب الكبير كبابِ قلعة موصد، أسالُ نفسي:

هل بتّ متهماً أو معتقلاً عند الأمن الجنائي؟

أتذكر نصيحةَ الطبيب النفسيّ.. اللوحات المعلقة على الجدران محرقةٌ للوقت، إذا رأيتها على جدران المشافي والعيادات وأماكن الانتظار الثقيل، تذكّر أنّ لها هدفاً آخر غير الديكور، عندها أفرغْ ضجركَ فيها، تتبعْ خطوط الألوان، واسألِ الفنان: لماذا فعل ذلك؟

بحثتُ في الجدران فلم أجد أيّ لوحةٍ.

أسندتُ رأسي إلى المقعد، بدأتْ ذاكرتي تزحفُ بي شيئاً فشيئاً باتجاه الماضي، كما عادتها في تلك المواقف، تعيدُ توليفَ قصصٍ قديمةٍ مَطويّة في ملفاتها وترسلها إلى ساحة تفكيري إلى أن تحوّلت إلى سيولٍ من صديدٍ مرٍّ، بدأ يضجّ به رأسي.

 هكذا شخّصها لي الطبيب النفسي الذي زرته آخر مرّة.

 “اِكبَحها”، قالها بالحرف الواحد، “اشكمها بالنظر إلى اللوحات، بالأشجار، صارعها بأحداثٍ جديدةٍ، اقفلْ بابها، إن استطعتْ غنّ، ارقص.. المهمّ لا تتركها تفتح أبواب جهنمها عليك”

وحاولتُ، وفشلت.

***

 ترتدّ إليّ صورتي حين وقفتُ على باب فرع الأمن العسكري لاستخراج تصريح روتينيّ لدخولي مدينة القنيطرة، وقتها كنتُ أتساءل: هل يحتاج المرءُ إلى تصريح ليزور قطعة من تراب وطنه؟

يومها دخلتُ المبنى وأعطيت أوراقي للمساعد، فطلب منّي أن أنتظر حتى يُدخلها إلى الضابط، عاد سريعاً وهو يقول مؤكداً: “سيادته طالبك”.

 راحتْ ذاكرتي تقلّب أوراق خيبتي وملفّات شقائي، لا بدّ أنّي ساقط على وجهي هنا لا محالة.

 بدأت أتذكّر ماذا فعلتُ منذُ ولدتني أمي إلى هذا اليوم الذي أقف هنا بين أنيابهم، ارتبكتُ خفتُ..

عندها تذكرتُ مقولةَ ضابط أمن اللواء الذي أدّيتُ فيه الخدمة العسكرية. عندما أنهيت خدمتي راح يساومني على توقيع أوراق براءة الذمة، يريدني أن أخبره بملفات الضابط الذي كنت أعمل تحت إمرته وهي أمور تتعلق بالفساد، والرشاوي، وهروب عساكر، واختفائهم. راح يحدثني عن الوطنية والأخلاق وحبّ القائد وغيرها، وهو يحسبني لا أعلم خبث نواياه، كان همّي الوحيد حينها أن أخرج بسلام 

 فالتزمتُ الصمت.

 طردني من مكتبه مرتين وفي الثالثة أمسكَ الورقة ووقّع عليها، وهدر قبل مغادرته المكتب: “بدّي اخرب بيتك وين ما كنت.. انقلع..”

ما زلت أقف عند الباب، المساعد مشغول بالردّ على الهواتف، وصلت إلى قناعة تامة أنّ الضابط الملعون فعلها بي وأرسل تقريره إلى المخابرات العسكرية.

كان المساعد حين ينتهي من مكالمةٍ هاتفيةٍ يرشقني بنظرةٍ حادّة ثم يقول متهكماً: “شو عامل أستاذ؟”

ولا أجد جواباً، فينقذني رنين هاتفه من براثن ابتسامته الصفراء.

 أهربُ بعينيّ بعيداً عنه، كي لا تقع في مجالِ نظراتهِ الحادّة، أُشغلها بالنظر إلى السقف والجدران التي تقشّر دهانها ولا لوحات فيها سوى صورة القائد بالبدلة العسكريّة، سيحرقُ النظر إليها ما تبقى فيك من أعصاب، قبل أن تحرقَ وقتكَ في تأملها أكثر.

صارتْ أظافرُ الخوف، تحفرُ في داخلي أخاديدَ، تصيرُ الأخاديد حُفراً. كنتُ على وشكِ السقوط.

 أخرجني صوتُ المساعد من دوامتي: “تعال سيادته طالبك”

مشيتُ خلفه، فتحَ الباب، سبقني ووضعَ ملفاً من الأوراق أمامَ الضابط، من بعيد لمحت بطاقتي الشخصيّة فوقها، فأيقنت نهايتي.

 بالكاد خرجتْ كلماتٌ ناشفةٌ من حلقي المتخشب: “احترامي..”

ردّ “أهلاً” خاطبني من دون أن ينظر في وجهي، “أنت شو بتدّرس؟”

“تاريخ سيدي”

“يعني مو رياضيات”

“لا. تاريخ سيدي”.

“….. عليك وعلى التاريخ”

 ثم تمتم “ما استفدنا شيء” ثم رفع رأسه “اعتقدت أنك أستاذ رياضيات أو فيزياء ربما نستفيد منك في تدريس ابني، هو في الثانوية العامة”.

أنهى كلامه وهو يمدّ يده بالأوراق: “انصرف..”

***

صحوتُ من دوامتي على صوت الرجل الأشقر الطويل الذي وقف أمامي يمدّ لي يده مصافحاً، قال بعربية مُطعمة بالألمانية.

 “أنا المُترجم..”

  من الدرج الذي يتوسّط البناء، نزلَ رجلٌ نحيفٌ، بهدوء اقترب منّا، خاطبني باسم عائلتي ثم قال لي:

“أنا المحقق” صافحنا وأبقى يده في كفّ المترجم وهو يقول: “اتبعوني” فصعدنا خلفه.

عندما فتح باب مكتبه، اتجه صوب خزانة، تناول منها ملفاً ثم وضعه على الطاولة.

كان أوّل ما أثار خوفي وريبتي في الغرفة حينها حِبالٌ وأكبالٌ رفيعةٌ، سيور من الجلد ومقبضين سوداوين ومجموعة خيوط متينة تتوسطها قطع خشبيّه طولانية كالعصيّ الغليظة مثقوبة تمرّ خيوطٌ خضرٌ رفيعةٌ منها وكأنها منحوتة باليد، كلّ ذلك معلّق على الجدار المقابل لباب الغرفة، على الجدار الثاني؛ كانت مجموعة من الصور بالأبيض والأسود تتوسطها عصا خيزران طويلة رفيعة في رأسها سوط من جلد أسود.

طلب منّا الجلوس، تردّدتُ، فليس من عادة هكذا أمكنة أن تسمح للمدعوين إليها بالجلوس.

 جلسنا متقابلين أنا والمترجم الذي كان بين الحين والآخر يسألني عن أسماء مدنٍ وبلداتٍ زارها في وطني.

كنتُ أعلم أنّ ثقتهم بالمترجم الألماني تفوق ثقتهم بمترجمٍ آخر من اللغة الأم على الأقل فالمحققُ لا يشكّ لحظةً بولاء المترجم. على كلّ حالٍ، لا مكان للثقةِ في هكذا دهاليز.

كان مكتب المحقّق خشبياً عتيقاً، الخزانات قديمة، وحتى الملفّات والأدراج تفوح منها رائحة تاريخ يشكّ من يدخل هنا في براءته. 

المُحقق الهادئ ذو الشعر الطويل والخدين الضامرين، يرفع عينيه بعد أن غرسهما في دفترٍ كبيرٍ، يتّجه إلى المترجم ويقول له: 

أسأله: هل يعرف لماذا هو هنا؟

يسألني، وأجيب بالنفي!

يقول لي مستغرباً: أنت هنا كشاهدٍ، ألم تقرأ ما كُتبَ في الدعوة؟

أجيبُ أنني قرأت ولم أفهم ما فيها..

 يشرعُ في أسئلة روتينية من أين أنت؟ ومتى وصلت إلى ألمانيا؟ ثم تأكد من عنوان سكني.

بدأت أسئلته تشعرني بالاطمئنان حين صار يسألني عن وضعي الصحيّ: هل تعاني من مرض مزمن؟ هل تستعمل نظارة؟ هل أجريتَ عملاً جراحياً…؟

أجبت بأنّ صحتي جيدة والحمد لله، وليس عندي شيء مما ذكره.

ومن ثم راح يسألني، وهو يخرج الكلمات من فمه بتسلسل روتيني بطيء وينظر في عيني:

هل خضعت لفحصٍ طبّي يتعلّق بالأذن عندما وصلتَ إلى ألمانيا؟

نعم أذكر ذلك، كان ذلك في مركز استقبال اللاجئين في “الكامب” ثم أردفت واختبار للرئتين أيضاً.

راح يراودني شكٌّ غريب، لعلي مصابٌ بمرضٍ خطيرٍ ربما يهدد الأمن القومي للبلاد وعليه يمكن حجري أو ترحيلي.

بدأتُ أرتعبُ، وصرت في رهبةٍ أختلس النظر إلى الحبال المعلّقة على الجدار. 

حسناً هل حصلت على جهازٍ لتقوية السمع حينها…؟

لا.. لم أحصل!

أذكر أنّ الطبيب قال لا مشكلة لديّ في السمع وها أنا أسمعك جيداً.

هل تعرف الطبيب؟

لا…؟

هل وقعّت على أوراق حينها؟

ربّما.. نعم.. لا أتذكّر بالضبط..

حتى لو وقعّت في تلك الأثناء، ففي غالب الأحيان لا أعرف ما بها بسبب عائق اللغة…!

شكراً لك هذا يكفي..

يلتفت المُحققُ نحو المترجم ويتحدّث حديثاً طويلاً ثم يطلب منه أن يترجم لي بهدوء ما قاله 

يقول المترجم:

الطبيب طلب منك التوقيع على وصل استلام جهاز خاصّ بالسمع، وأنت واحد من كثيرين فعلها معهم، وأنت لست متهماً هنا، أنت شاهد فقط.

شكراً لشهادتك، لكن في المرّة القادمة لا تضع توقيعك على شيء لا تعرف مضمونه

ثم أخبرني المترجم أنّ التحقيق انتهى، وإن كان لديّ تساؤل، يمكنني طرحه

أجبت بالنفي..

ثم مدّ لي ورقة وقال:

وقّع هنا..

ابتسمتُ وقلتُ إنني لن أوقّع حتى أعرف ما بها

ابتسم المُحقق وهتف هذا جيد، بدأتَ تفكّر بشكلٍ صحيحٍ..

قال المترجم: إنّه تصريح بأنك لم تتعرّض للتعذيب هنا أو لم تنتزع منك الاعترافات قسراً.

كما يفعل المُمتنّ، مددت توقيعي نحو اليمين ونحو الشمال كما لم أفعل من قبل

يقول المُحقق: تستطيع أن تذهب، ثم بدأ بخوض حديثٍ سريعٍ مع المترجم عن صورة معلّقة في الجدار.

انتهزتُ الفرصة، وقلتُ للمترجم: هل يسمح لي السيّد بسؤال خاصٍ؟

ردّ المترجم: سؤال خاص؟ ليس مجاله هنا..

قلت: عفواً أقصد خارج سياق الموضوع الذي جئنا من أجله.

هزّ برأسه: اِسأل…!

في ريبة أشرتُ إلى الحبال المعلّقة على الجدار وقلتُ: ما هذه؟

ابتسم المحقق، واتجه مباشرة نحوها، كانت ابتسامته قد أزالت قليلاً من جليدٍ تعلّق على روحي..

اقترب حتى كاد يلامس الجدار ثم أمسك بمقبضين متباعدين، شدّهما، فَرَد ذراعيه فتشكّل وسط الغرفة هيكلُ يشبهُ عربة الخيول على شكل شبكة من حبالٍ رفيعةٍ تتدلّى في آخرها كتلتان من حديدٍ يقارب وزن كلّ واحدةٍ منها الكيلو غرام يتدليان كبندولين كبيرين حتى يلامسا الأرض.

التفتَ إليّ وقال:

هذه عربتي، أنا أحبّ الخيول والعربات وكلّ ما يتعلّق بها.

 ثم أمسكَ مجموعة من الحبالِ الرفيعةِ، شبّكها بين أصابعه، شدّها ثم راح يحرّك أنامله كمن بدأ العزف، صار يشدّ ويرخي إلى أن توازنت الكُتل وصارت متساوية ككفتي ميزان، ثم نقل الحبال إلى يده اليسرى وتناول بيمينه المِهماز المعلّق على الجدار وراح يهشّ على فرسيه في الهواء وانطلق.

 بعد قليل، أرخى الحِبال، فعادَ كلّ شيء إلى مكانه ملتصقاً بالجدار.

التفتَ إليّ وقال:

عندما أعاني من التوتر وضغط العمل، أفرغُ ذلك كلّه هنا في هذه العربة، فيعود إليّ توازني وأشعرُ بالهدوء.

بعدها أشارَ إلى صورٍ ولوحاتٍ معلَّقة على الجدار، ليشرحَ لي أنَّه فارس وقد نالَ جوائز كثيرة في سباق عربات الخيول..

 ثم نظر إلي وخاطبني مباشرةً، من دون أن يستعين بالمترجم هذه المرّة:

أنا أفهمك تماماً، نحنُ لسنا في بلدك الأم، وأشارَ صوب النافذة.

 انظرْ إلى الشمس، نحنُ في الطابق الثالث ولسنا تحت الأرض!