لم يكن ينقص إلا أن يصدر الشيخ حكمت الهجري بيانه، في الأول من هذا الشهر، كي تشتد الحملة عليه من أنصار السلطة، بل صار مطلوباً أن يُدان من قبل أي شخص يدلي برأي في الأحداث المروّعة الأخيرة التي شهدتها جرمانا وأشرفية صحنايا ثم السويداء، بعد هجوم مجموعات قيل إنها فصائل غير منضبطة. الهجري وصف هجمات تلك الفصائل بـ”المجازر الداعشية التكفيرية”، وكان واضحاً في القول: “إننا لم نعد نثق بهيئة تدّعي أنها حكومة، لأن الحكومة لا تقتل شعبها بواسطة عصاباتها التكفيرية التي تنتمي إليها، وبعد المجازر تدّعي أنها عناصر منفلتة”. ليخلص أخيراً إلى طلب الحماية الدولية بشكل فوري، مع تذكيره بمجازر الساحل.
خلال المفاوضات، التي أعقبت البيان، بين السلطة ومشايخ العقل الدروز وقادة الفصائل المحلية الدرزية، راح يُشاع أن الشيخ الهجري هو الأكثر تصلّباً في مطالبه، وحُمّل مسؤولية إفشال تفاهم قيل إنه أُبرِم في ريف دمشق، إلا أن شيخي العقل (الجربوع والحناوي) لم يتبنيّا ذلك الاتهام، وهما اللذان حضرا الاجتماع المذكور. في النهاية، آلت الأوضاع فعلياً إلى اتفاق مشايخ العقل ووجهاء محليين وقادة الفصائل المحلية على لائحة المطالب، واضُطرت السلطة إلى التجاوب معها، ليس من دون خروقات كما حدث بقصف فصائل مجهولة بلدة الثعلة التابعة للسويداء ليلة الاثنين.
الحملة على الشيخ الهجري وشيطنته ليست بالجديدة، وأصحابها بدأوا بها منذ أربعة شهور عندما طالب بأن تُسند إدارة السويداء في المرحلة الانتقالية إلى أبنائها، وأن يؤجَّل تسليم سلاح الفصائل المحلية حتى إنشاء جيش وطني. وقد صار واضحاً خلال الفترة الماضية أن الموالين الجدد يستهدفون أي شخصية تنتقد السلطة الجديدة، وقد حدث هذا مؤخراً لشخصيات من منبت سُنّي أيضاً. المشكلة مع الهجري أن لمشيخته إرث يصعب تجاهله والتقليل من شأنه، كما قد يحدث مع أفراد بلا حيثيات أهلية تقليدية، لذا يُنظر إليه كعقبة أمام خضوع السويداء للمركز.
وعندما لم يكن هناك جديد يُنتقد عليه الهجري، كانت تُستحضر مطالبته بدولة علمانية ليُسخر منه بوصفه شيخاً يطالب بالعلمانية، أي كأنه يناقض نفسه. عن جهل أو خبث، أو كليهما، يخلط أصحاب هذه السخرية بين العلمانية والإلحاد، ويتجاهلون أن الأولى تعني حيادية الدولة تجاه المعتقدات وتوفير الحماية القانونية لها، وليس من التناقض أن يدعو شيخ سني مثلاً إلى العلمانية بينما يمارس معتقداته، بل ويسعى إلى نشرها سلماً وبما لا يتعدى على حريات الآخرين.
ليس الأمر طبعاً في أن الهجري لا يُنتقد، أو لا يُدان، بل في أن منتقديه لم يكن لديهم استعداد وتأهيل جادين لتفنيد أيٍّ من مطالباته أو آرائه. ومن المؤكد أن الهجري لم يكن يحظى بإجماع درزي، بل كانت قد بدأت تباشير مطالبات له بأن يبتعد عن السياسة، بعدما أدى دوره المعنوي الهام في انتفاضة السويداء أثناء حكم الأسد. بعض المتململين من حضور الهجري كانوا أكثر مرونة منه إزاء السلطة في دمشق، والبعض منهم أيضاً حاول فتح قنوات اتصال معها من دون أن يجد تجاوباً على المستوى المأمول.
الدروز، مثل أية جماعة أهلية سورية أخرى، ليسوا كتلة واحدة، وانقساماتهم عديدة ومتنوعة بين متدينين وغير متدينين، وبين أبناء مدينة وريف.. إلخ. في الأحوال العادية تبرز هذه التمايزات، فلا يكون لمشيخة الهجري الموقع الذي شغلته منذ اندلاع انتفاضة السويداء حتى الآن. المشكلة الحقيقية أن سوريا بأكملها لم تعبر بعد إلى ما يمكن اعتباره أوضاعاً طبيعية مُرضية لعموم السوريين، بل لقد تدهورت الأوضاع وتلاشى كثير من الآمال قبل شهرين مع المجازر والانتهاكات التي راح ضحيتها مدنيون في الساحل. وسيكون من الخطأ الفادح عدم الانتباه إلى تأثير ما حدث في الساحل على المزاج العام في السويداء، ولدى الدروز عموماً.
لندعْ جانباً تلك الرواية المبسّطة عن تسجيل صوتي مسيء للنبي أُلصق على صورة شيخ درزي، فأدى إلى غضب ومظاهرات في العديد من أنحاء سوريا، ثم أدّت هذه الغضبة إلى أعمال انتقام من الدروز. تسجيلات المظاهرات التي قيل إنها عفوية كانت قد ملأت السوشيال ميديا، وفيها يمكن رؤية حضور كثيف لأعلام هيئة تحرير الشام الحاكمة، ورؤية حضور بارز لمسلّحين خطب البعض منهم بالمتظاهرين، وحرّض على الدروز وتوعّدهم. وحتى قبل قصة التسجيل كانت حسابات لإعلاميين مقرَّبين من السلطة قد واظبت على شتم وتحقير الهجري، وكان البعض منها أكثر صراحة بتوعّد الدروز بأن دورهم آتٍ بعد العلويين.
هذا الضخّ (الذي لا يمكن إلا فهمه مدبَّراً) كان أفضل خدمة للهجري، وقد أتت تحديداً من قبل المواظبين على شتمه وتحقيره، وتحقير ما يرمز له دينياً، فاستفزوا لنصرته شرائح متزايدة من منبت درزي. وفي المحصلة استفاد الهجري أولاً من انتهاكات الساحل التي دفعت كثر إلى التخوّف مما سيليها، ثم أتت الهجمات على جرمانا وصولاً إلى السويداء لتدفع تيار “الاعتدال” إلى التصلب معه.
وحتى بعد التهدئة لم تخفت لدى أنصار السلطة موجة التهجّم على الهجري، من اتهامه بالعمالة لمخابرات الأسد إلى اتهامه بالعمالة لإسرائيل، مروراً بالمطالبة بمحاكمته على طلب الحماية الدولية، بموجب الإعلان الدستوري الذي جرّم في مادته السابعة “طلب التدخل الأجنبي أو الاستقواء بالخارج”. والطريف أن هؤلاء المطالبين يخالفون المادة ذاتها من الإعلان الدستوري، بإثارة النعرات والتحريض على العنف، فالمادة السابعة تنص على: “تلتزم الدولة بتحقيق التعايش والاستقرار المجتمعي وتحفظ السلم الأهلي وتمنع أشكال الفتنة والانقسام وإثارة النعرات والتحريض على العنف”.
أبعد من ذلك، السلطة نفسها هي في موقع مخالفة الإعلان الدستوري الذي اختارته لنفسها، فحتى الآن لم يُعلن عن القبض على أولئك الذين خرجوا في مظاهرات متوعّدين الدروز بالقتل، ووجوههم مكشوفة ومعروفة، وكذلك حال العناصر المسلحة الذين دخلوا أشرفية مثلاً، وهم يهتفون: سُنية سُنية.. لا درزية ولا علوية. وعلى صعيد متصل، خالفت السلطة المادة 18 من الإعلان الدستوري التي نصت على: “تصون الدولة كرامة الإنسان وحرمة الجسد وتمنع الاختفاء القسري والتعذيب المادي والمعنوي، ولا تسقط جرائم التعذيب بالتقادم”. فهناك عدد كبير من التسجيلات التي يُجبر فيه مسلّحون علويين في الساحل على العواء، وتسجيلات مماثلة يُجبر فيها دروز على قول “ماع” تقليداً للخرفان، فضلاً عن حلاقة شواربهم بهدف إذلالهم على نحو جماعي وممنهج، وهذه كلها فوق مخالفتها للإعلان الدستوري تُعدّ انتهاكات ضد الإنسانية.
بالعودة إلى موضوع طلب الحماية الخارجية، الأصل دائماً هو ألا تُضطر أية مجموعة إلى توسّل الحماية من الخارج، وأن تحمي الدولة مواطنيها، أفراداً وجماعات. أما المرجو مجتمعياً فهو التآزر ومدّ الأيدي إلى المستضعفين، كي يجد هؤلاء العزاء على الأقل عندما لا تقوم الدولة بواجبها، وكي لا يشعروا بالخذلان الذي يجعلهم يتوسّلون أي يد تمتد إليهم. الخذلان وصفة جرّبها السوريون منذ عام 2011، ومن المستحسن تعلّم الدرس وعدم تكرارها.
والأصل أيضاً أن تكون هناك دولة مواطنة حقيقية، وهي لا تكون إلا محايدة، وهذه الدولة هي التي تحدّ من العصبيات الطائفية. ومهما قلنا عن الأسباب الاجتماعية والتاريخية للمسألة الطائفية، فإن واحدة من أكبر العقبات التي تحول دون تذليلها نراها في تغييب المواطنة. ظاهرة الشيخ الهجري هي مثال على العصبية التي تنتعش بغياب الدولة المنشودة، والأسوأ أن المواظبين على شتمه يظنون أنهم هم الدولة.
*المدن
Leave a Reply