لا يكاد يمرّ يوم بلا خبر عن أعمال تنكيل تحدث في الساحل، تُتهم بها عادة فصائل غير محدّدة، لكنها تابعة لوزارة الدفاع بموجب الاتفاق على حلّها. وهناك حالة على الأقل ظهر فيها مسؤول أمني يعترف بمسؤولية عنصرين عن إحدى المجازر ويتعهد بمحاسبتهما، وهي مجزرة “حرف بنمرة” في ريف بانياس. المجزرة وقعت أول أيام عيد الفطر (السعيد)، واشتُهرت صورة أحد ضحاياها، الطفل إبراهيم شاهين الذي ظهرت ثيابه المدقعة كدليل على فقر عائلته، الفقر الذي ينبئ بأن أصحابه ليسوا من شبيحة الأسد الذين قتلوا ونهبوا واستباحوا.

ما كادت تهدأ قليلاً الضجة التي أثارتها صورة الطفل القتيل حتى انتشر تسجيل لرجل من قرية الرصافة التابعة لمصياف، يتحدث فيه عن عناصر مسلّحة ساقوا ابنه بين شبّان آخرين، ثم اتصلوا به من موبايل الابن ليخبروه بأنهم أرسلوه إلى جوار حافظ الأسد، وبأنهم ألقوا بجثته في مكان معلوم وقد انتزعوا قلبه من صدره. يذهب الأب إلى ذلك المكان، ليرى حقاً جثة الابن وقد انتُزع قلبه.

بين الصورة والتسجيل الأيقونيين، لم يعد بعض الأخبار يثير الانتباه، فصار من المعتاد مرور خبر مقتل شخصين على يد العناصر المسلّحة إياها، في قرية القلوع في ريف بانياس، أو تلك الأخبار عن حالة الذعر المتفشيّة في العديد من البلدات والقرى العلوية. الحديث عن أخبار يومية من هذا القبيل هو بعد مرور شهر على قمع التمرد الذي قام به فلول الأسد، وأسفر بدايةً عن مقتل عدد من قوات الأمن العام في كمائن نُصبت لهم.

في خبر لوكالة الأنباء العربية السورية-سانا، بتاريخ 27 آذار الفائت، أن محافظة طرطوس قدّمت منحة مالية من الحكومة السورية لألفي عائلة متضررة، سواء بحرق الممتلكات أو السرقة أو التخريب أو ذوي الضحايا، في الأحداث التي شهدتها بانياس وريفها، وإحدى قرى القدموس. الأحداث المشار إليها هي تلك التي وقعت خصوصاً لأربعة أيام بدءاً من السابع من آذار، وشهدت فيها مناطق من الساحل والجبال الساحلية أعمال قتل وتنكيل بالمدنيين العلويين، اعترفت بها الحكومة وشكّلت لجنة تحقيق رسمية لم تصدر تقريرها بعد.

رقم الألفي عائلة متضررة ليس بقليل مع ما ينطوي عليه، والمنحة الحكومية هي مئة دولار لا غير، أما الأرقام غير الرسمية فتشير إلى تضرر حوالى 15 ألف بيت ومتجر استبيحت أو أُحرقت خلال تلك الأيام الدامية وحدها. الذين ارتكبوا أعمال القتل والاستباحة تكفّلوا بتوثيق قسم منها يؤكد على استهدافهم الضحايا من منطلق طائفي، حيث وثّقوا خصوصاً التنكيل بالشبان المعتقلين. وشهادات المدنيين بمجملها تؤكد على أن المرتكبين تقصّوا في الأحياء المختلطة عن طائفة الضحايا قبل قتلهم، أو كرروا أقوالاً طائفية وهم يقتلونهم. أمثال هذه التسجيلات لن تكون لصالح الحكم الجديد الذي يسعى إلى فك العقوبات عن سوريا، ولا يُستبعد استخدامها ضده، على الأقل كوسيلة ضغط سياسية جاهزة عند الحاجة.

ورغم صعوبة وقسوة قول هذا: كان يمكن “تفهّم” بعض أعمال الانتقام التي حدثت، لو أنها اقتصرت على فورة الساعات الأولى للتمرد الذي استغرق القضاء عليه بضع ساعات ليس إلا. وكان يمكن “تفهّم” أعمال الانتقام لو أنها صدرت عن متضررين شخصيين، كأن يبادر متضرر من شبيح للأسد إلى الثأر منه. لكن استمرار أعمال القتل والتنكيل، ولو بوتيرة منخفضة، يلغي الأعذار المخفّفة التي تُسوَّق من هنا وهناك.

على صعيد متصل، من المستغرب صدور أقوال عن السلطة على سبيل التهوين مما حدث، وعدّه أدنى من ردود الفعل المتوقَّعة. فأولاً من المفترض بالسلطة أن تكون ناطقة باسم القانون، وألا تبرر أعمال ثأر وانتقام خارجه مهما كانت قليلة. ثانياً، لم ينتهِ الأمر بعد، ولم توضع حصيلة نهائية يُقفل بها هذا الملف للقول إن هذا الرقم أدنى من المتوقع. في كل الأحوال، مثل هذه الخلاصات (إذا أثبتها المستقبل) تُقال بعد سنوات من الاطمئنان إلى استتباب الأمن في الواقع والمصالحة في النفوس.

لعلنا لا نبالغ في القول إن أية مقارنة الآن لمجزرة بمجزرة أكبر منها هي بمثابة ترخيص بمزيد من القتل لتلك الأصابع المتأهبة على الزناد، وفي الأصل يجب أن تكون المقارنة معيبةً بالمطلق بين العهد الذي أحرق البلد وأولئك الذين يقولون إنهم يريدون بناءه وازدهاره. من المشين مقارنة مجزرة بمجزرة، فالمرجعية في الحالتين يجب أن تكون العدالة. ومن المشين أكثر استغلال عدم الشروع في تطبيق العدالة الانتقالية من أجل تجريم طائفة بأكملها.

اليوم يستطيع هذا العنصر (المنفلت حسبما يُقال) رؤية آلاف الحسابات التي تبرر له على السوشيال ميديا، بل ربما يشعر بمزيد من الفخر وتشتد حماسته لارتكاب المزيد وتصويره للزهو به. هناك حشد سُنّي طائفي جاهز لتبرير الجرائم، وجاهز للطعن بأية شهادة أو أي توثيق من أي نوع؛ تماماً على غرار الحشد الفكري الأسدي الذي كان يتذاكى لإنكار الجرائم وهو يشمت بالضحايا في الوقت نفسه. واستخدامنا الصفة الطائفية للحشد الأول وإغفالها للحشد الثاني مردّه أن شبيحة الأول مجرمون بخطاب وممارسات طائفية صريحة، بينما شبيحة الثاني كانوا مجرمين باستثمار طائفي ماكر وممارسات طائفية مستترة.

من المؤسف أننا نتحدث عن عدد كبير بجهوزية عالية لإجراء مقارنات تبدو منطقية، مع أن تفنيدها لا يستغرق سوى برهة تفكير. من ذلك مثلاً الحملة على صورة الطفل القتيل في ريف بانياس، بدعوى وجود آلاف الضحايا الأطفال الذين لم يكترث بهم أحد أيام مجازر الأسد. هذه المزاعم، على سبيل المثال إلا، تتجاهل أن صورة حمزة الخطيب وصلت إلى مختلف أصقاع العالم، ولا تزال إلى اليوم رمزاً لجميع الأطفال الضحايا، وأن جثة الطفل الغريق إيلان صارت أيقونة عالمية لا تمثّل فقط الأطفال الذين غرقوا بل كل الذين قطعوا الدروب المهلكة للوصول إلى بلد آمن. في كل الأحوال، من النبل المطالبة بأن يحظى الضحايا بما يستحقونه من تكريم وإنصاف، لا أن يُجرَّد البعض منهم من الاعتراف أو التكريم بزعم إهمال الآخرين.

القائمة تطول جداً إذا استعرضنا بعض، لا كلّ، ما يتداوله الحشد على السوشيال ميديا. أسوأ وأخطر ما في الأمر أن قسماً من الحشد يسوّق له جهاراً بأنه الحشد السُنّي، بينما يمارس عدد أقل التقية فيبرر تأييده عمليات الانتقام بمقارنة الأرقام، لتبدو المسألة مسألة حسابات رياضية باردة، بينما في الخلفية تُستلهم ثقافة الثأر العشائرية. في ادعاء سُنّية الحشد، وعناصره (المنفلتة) على الأرض، يتم التغافل عن أن بعضاً من المرتكبين سبق له المشاركة في استباحة عفرين على نحو مشابه، والأكراد بغالبيتهم الساحقة من السُنة، والبعض الآخر استباح أجزاء من بيوت حلب الشرقية (العربية السُنية) في ظاهرة سًمّيت التشويل، نسبةً لوضع المسروقات في أكياس وهي ظاهرة مقابلة للتعفيش لدى شبيحة الأسد، أما الذين عفّوا عن البيوت فمنهم من نهب معامل بأكملها في المدينة الصناعية الشرقية…

هذا الحشد السُني المزعوم على ضخامته لا يمثّل الإسلام السُنّي، بمعنى أنه لا يحتكر تمثيله، فالسُنّة بمجموعهم لم يفوّضوا أحداً بالانتقام من العلويين، ولم يُعرض إحقاق العدالة على المتضررين شخصياً منهم، فرفضوا وأبوا مفضّلين الانتقام. وفقط لأن الدين يُزجّ به للاستثمار الطائفي فإن هيئة الإفتاء مطالبة بإصدار فتوى تحرّم قتل سوريين آخرين على سبيل الانتقام، والفتوى مطلوبة لا لحق الدماء الآن فحسب، ولا لأجل العلويين، وإنما كي لا يتغوّل هؤلاء ويستقووا لاحقاً على من يخالفهم من السُنة أنفسهم.

هذا البيان ضروري اليوم، لا لتبرئة السُنة مما يحدث، بل لسحب الدين من أولئك الذين يستخدمونه على هواهم في عمليات قتل وسرقة، ولسحبه من أفواه الذين يظهرون في تسجيلات تتوعد العلويين (المجوس) أو الدروز (الخنازير) بالإبادة. وسيكون من المستغرب حقاً أن تتدخل هيئة الإفتاء، على ما وعد به واحد من أعضائها، في شؤون مختلف الوزارات، بينما تترك الدين لمن يلوّثه باستباحة أرواح وممتلكات المدنيين على هواه!

إن تجريم طائفة بسبب وجود مجرمين فيها يستتبع (بالقياس ذاته) تجريم طائفة المنتقمين مع أن الذين ينفّذون الانتقام هم قلّة، والحل كان ولا يزال في اللجوء إلى العدالة كي تقتص من المجرمين ومن المنتقمين، وهي التي تقرر مَن مِن مجرمي الأمس ومنتقمي اليوم يستفيد من الأعذار المخفِّفة. ليس باسمنا، كسوريين، تُستباح الأرواح والممتلكات والكرامات عشوائياً خلال أكثر من شهر، وليس باسمنا يلتجئ الألوف من الأبرياء إلى البيوت أو البراري فلا يتجرؤون على الخروج. لقد هتف سوريون من مختلف المنابت قبل أربعة شهور: ارفع راسك فوق إنت سوري حرّ. ولن تكون سوريا إن جعلتموها: ارفع راسك فوق إنت سُنّي حر.

المدن