لم أعد أهابُ مجاهرهم، فدونهم آلاف الدّحل تمنعهم عني.

طرقتُ الباب ففُتح عن وجه زوجتي الشاحب، تحاول أن تصطنع ابتسامةً فلا تسعفُها التجاعيد، ويكبحها الارتخاءُ والذبولُ المطبوعُ على وجهها. تملّكتها دهشةٌ، وارتفع الدم حتى أذنيها وامتلأت بالغيظ حين رأتني، لكنها لم تتكلم، فبادرتُها قائلًا:

– لماذا علـى المأساة أن تتكرر في العام مرتين؟

قالت حانقةً: وأين خفا حنين؟

قلتُ: حتى خفا حنين صارت لهما قيمةٌ في زماننا.

في العيد الماضي لم أترك بابًا إلا وطرقته؛ أريد أن أستدين شيئًا من النقود تعينني على تكاليف العيد، أسددها أقساطًا، قسطًا تلو الآخر، فأبى أكثر الناس إلا نفورًا، وكلٌ له أسبابه ودواعيه، فهذا يظنني كاذبًا محتالًا، وذاك يخشى أن أماطله، وآخر يضنَّ بالنقود، والكلُّ يستدرك بأن يذكرني بسوء الأحوال، وضاقت على الناس عيشتهم، وأكثر الناس لا يسري في

عروقهم أي إحساس بالفقر والحاجة، وفاقدُ الشيء لا يعطيه، ولا يصدّق أنَّ في الدنيا من يحتاج رغيفًا.

قلتُ لزوجتي: هذه الدنيا كلها للأغنياء والمترفين، بينما نصارع شظف العيش وضنَكه،

وحتى العيد صار لهم، بعد أن فرَّغوه من مضمونه، وعرَّوه من قيمه، وأخرجوه بحلةٍ أخرى تتناسب مع أهوائهم.

جلستُ، فنهضَ كلُّ أطفالي، وتراكضوا يريدون أن يتفاجؤوا بما جلبتُهُ لهم. وحقًا كانت مفاجأة وأيّ مفاجأة.

طأطأ أحدهم رأسَه وعاد الهوينى إلى وكره، وجلس الآخر منهارًا لا يصدق، وأنشأ الصغير يبكي بكاءً حادًا، كأنّ قطعة من جسمه قد جُزت.

في الصّباح سوف يخرج أطفال المترفين منتعشين بعبق العيد انتعاشَ الورود بحبات الندى، مزهوين بالأثواب الجديدة، مندفعين بالمرح والحبور، لا تكاد الأرض تحس بخطاهم، ومعظم الآباء يرون العيد من خلال عيون أولادهم، ويفرحون به من خلال فرحتهم، وكذلك أنا.

عندما أحبس أولادي في بيتي، وأمنعهم من مخالطة أقرانهم ولِداتهم، وأقنعهم أنّ هذه المخالطة ضربٌ من الاختلاط المحرَّم، منهيٌّ عنه في الشرع والقانون والعرف.

عادت زوجتي لتسأل:

“إنك لم تعدْ حتى بخفي حنين، ولا بُدَّ من وجود الضيافة، إنْ لم يكن من أجل الأولاد فمن أجل أن نحفظ ماءَ وجهنا أمام الضيوف”.

ضاقَ صدري بهذه العادات البالية، التي غزتنا على طول غفلة، وأسَرَتْنا واستعبدتنا، والأخطر من هذا كله أننا لا نفكر في الثورة عليها والتحرر منها، بل نرتاح بها جاثمة على صدورنا معشعشةً في قلوبنا ورؤوسنا، مزيّنةً وجوهنا، ملتفةً حول أعناقنا، راغمًا عن أنفنا، كما تجثمُ جبالُ هيمالايا على جسد الهند والسند، لا أدري متى تهتز الأرض فلا تذرها إلا قاعًا صفصفا. ألم تبدأ الثورة على كلِّ بالٍ، وقد تحدث في الغد ما يشغل الناس عن لهو العيد.

رفعت زوجتي رأسها فجأةً، وعيونها تبرق بالأمل وقالت:

– وجدتُها.

– الحمدالله، فُرِجتْ.

– أبو صطيف درويش …هل ذهبتَ إليه وسألته؟

– لم أطف القرية كلها كالسّائل، بل توجهت إلى عدد من الأقرباء والأغنياء.

– أظن أنّ أبا صطيف درويش يفك ضيقنا، هيا امض إليه يا رجل.

وبينما كنت في الطريق إلى أبي صطيف درويش راودتني صور عديدة عن ملامح الرجل، وتصرفاته، وعاداته، ومحاسنه ومثالبه ومواقفه وتحركاته، ونظارته الغليظة ذات الإطار الأسود، وشاربه المحفوف، ولحيته الخفيفة، وسبحته التي لا تفارق أنامله، وأقدامه التي لا تفارق أبوابَ المساجد. ومرَّت في مخيلتي صور أبنائه فشعرت بشيءٍ من المقت، لكنني ركزت في النهاية على أمرٍ واحد وهو أن الرجل من أعيان القرية وأشرافها، وليس من دراويشها، وتكاد القرية تقوم بقضّها وقضيضها بإشارة من سبابته، وتقعد.

صَدقَت زوجتي حين قالت: (وجدتُها).

وطرقتُ باب الرجل فإذا بالفضيلة والكبرياء والعفّة والوقار والبهاء والأنَفة والسّماحة والغبطة والبشاشة والحبور والوداعة والسّكينة والرحمة والهيبة والغموض يفتحون الباب.

– السلام عليكم أجمعين.

– وعليك السلام… وصمت.

– أطال الله عمرك يا سيدي ومولاي وسندي و…

نسيتُ أن أسلم على من كان يقف خلفه، شعرتُ بالإحراج الشديد لعدم انتباهي وارتباكي وقلة لباقتي، وعدم اتقاني فن (الاتيكيت).

استطعتُ أن أعرف ماذا قال أبو صطيف في نفسه، فاحمر وجهي وأردت العودة من فوري.

لكنَّ لسانَ الحاجة الذي في فمي انطلق يقول:

“أنتَ تعلم ما بي من فقرٍ وفاقةٍ شديدين، وقد توقفتُ عن العمل بعد أن توقف المعمل، وقد داهمنا العيدُ على حين غرّة، وليس لي يدان عليه، فجئت أمدّ يدي طالبًا العون ممن يمدُّ يده للعون”.

قاطعني غاضبًا:

“إذا سألتَ فاسأل الله وإذا استعنْتَ فاستعن بالله، (لا يكلف الله نفساَ إلا وسعها) أنت وأمثالك لا يكلفكم أحدٌ بتكاليف العيد، ولا ينبغي أن يزوركم أحدٌ، ويكون عالةً عليكم، بل أنتم من يجب أن يطوف على بيوت الآخرين لتنالوا من الضيافة ما تشاؤون، وأولادُكم”

حاولتُ أن أجمع شتات فكري لأقول له:

” وهل الناس يتزاورن في العيد بغرض الضيافة فحسب، هل أصبحت بيوت الفقراء مزابل منفرة؟”

قالَ يتنحنح:

” أقصدُ أنَّ بيوتَنا مفتوحةٌ لكم في العيد، وفي غير العيد”

واستاذن مغلقًا الباب في وجهي، فكرهتُ أن أنصرف دون أن ألقي التّحيةَ التي هي فرضٌ ولا شك.

– السلام عليكم أجمعين.

في هذه المرة تلقيت ردَّ السَّلام ممن كان يقفُ خلفَ أبي صطيف.

لقد كانَ شيطانُه الذي ألبَسَه ثوبَ الرجل الفاضل الورع التّقي العفيف الوقور البهي السّمح الحبور البشوش الوادع المهاب.

– وعليكَ السلام.

– عليكَ اللعنة، ولا زلت أرددها حتى استقبلتني زوجتي مرة أخرى، وتكرر نفس الموقف.

وبعد إطراقتها المعهودة قالت ثانية:

– وجدتُها.

– مَن؟

– المختار.

حين فُتح الباب عن وجه المختار، قرأتُ المفاجأة والدهشة في كل جسده، وددتُ أن تنشق الأرض وتبلعني، أو تبلعه، لم يدم صمته طويلًا، انطلق يصب عليّ الماء المثلج بكلامه:

– كيف نسيتُ أن أخبرك، لعن الله الشيطان.

– ما الأمر يا مختارنا؟

– إنهم يسألون عنك، نسيتُ أن أحذّرك، انتبه يا ولدي، لا تقم بأي عمل مشبوه، أنت تحت مجاهرهم.

ارتعدت فرائصي كلها، أو ما بقي منها، وأنا أتخيل نفسي معلقًا بسقف غرفة ظلماء رطبة، تسيل الدماء على جسدي من أثر الجَلد، فتمسكتُ بزنار المختار، وهو السلطة العليا في قريتنا، لا ندرك من بعده سلطة:

– أطال الله بقاءك، تعرفني جيدًا، كانت رحلتي اليومية من بيتي إلى عملي، والآن أقبعُ في بيتي، ولم تخرجني اللحظة إلا الفاقة، لا نيّة لي في أي عمل مشبوه.

حملق في عينيي كأنه يستجوبني:

– رفاقك الذين كنت تتسامر معهم، هل لازلت تتصل بهم؟

جالت بمخيلتي سريعًا آخر لقاءاتنا السريعة ونحن نبتغي راحة قصيرة بعد يوم مجهد، طافت بذاكرتي بعض الكلمات الرنّانة الجريئة التي ما كنت أسمعها من ذي قبل.

– لا يا مختار، انقطعت عن العمل ولم أعد أتصل بأحد.

وبحاجبين قاطبين وعيون قادحة حذّرني مجددًا من مجاهرهم، فانصرفتُ ناسيًا اسمي، وحريٌّ بي أن أنسى همّ العيد من الغد.

دخلتُ على زوجتي بسلّة الهموم ممتلئة. وبادرتها قبل أن تتفوه:

“قبل كلِّ عيدٍ ترين في عيون ملايين الأطفال دموعًا صنعها تجار الدم والمال والروح، وتجار الإنسانية والدين والسلطة. تُذرف بلا هوادة لتتحدث عنها الصحف المحلية والأجنبية كخبرٍ عابرٍ يعترض موجة الإعلانات الموسمية”

ظلّت فاغرة فاها، هي وأطفالي، لم أحتمل نظراتهم، فهُرعتُ إلى فراشي، وقد ملأتُ نفوسَهم بالخيبة والتعاسة. ولكم وددتُ أن يخطفني ملكُ الموت في هذه الليلة فأرتاح من همومي دفعة واحدة.

أعياني التفكير فجذبتني براثن النوم؛ ووضعتني على أجنحة طائر الأحلام الذي أخذ يجول بي في عالم الغد:

رأيتني مع جماعة من الأغنياء نستمع لنشرة الأخبار، فسمعنا المذيع يقول: (أيها السّادة نلفت انتباهكم إلى أنّ يوم العيد قد أُرجئ إلى إشعار آخر، وذلك بسبب سوء الأحوال المادية للمواطنين)، وهللتُ للخبر وحدي، بينما استنكر كل الناس من حولي هذا الخبر، فانهالوا عليَّ ضربًا؛ كوني كنتُ مندسًا بينهم، ووضعوني تحت المجهر.

ثم رأيتُني أُشارك في استفتاء جماهيري حُر: أجب بنعم أو لا (هل تودُّ أنْ يكونَ يومُ الغد عيدًا؟)

وكان رأي الأكثرية هو (لا) وفوجئنا بالنتيجة على غير ذلك، وصرخنا بصوت ضعيف

(هذا غش… هذا تزوير) فانهالت علينا الهراوات ولم نستطع تغيير النتيجة.

ورأيتني في حلم آخر مربوطًا إلى كرسي حديدي في غرفة حسبتها في قيعان الأرض، وأنا أسمع صراخ المساجين في الغرف المجاورة يصرخون (الموت ولا المذلة)، خلتهم يذوقون مسّ سقر، وكأني كنت أنتظر دوري، لكن ولله الحمد، داهمتني ذبابة قطعت عليّ الحلم.

ثم ما كدتُ أخلص من الذبابة ـ المشكورة ـ إلا ووجدتني أجمع الناس من حولي، وأدعوهم لرفض العيد، فصدّني أحد المشايخ قائلًا: يا ولدي، العيدُ شَعيرةٌ إسلاميةٌ لا يمكن تجاوزها ورفضها.

صرختُ وصرخ من معي:

– من يذكر ذلك يا شيخ؟ لقد صار العيد يومًا للأغنياء يُظهرون فيه غناهم وترفهم أمام تعاستنا وفاقتنا وقلة حيلتنا.

وسمعت أبا صطيف يصيح هاتفًا:

– (أنتم دحلُ العيد).

بينما وقف إلى جانبه جمعٌ غفير من وجوه وأعيان القرية وأغنيائها ومترفيها وأخذوا يهتفون بنا:

(لا تفسدوا علينا لذة العيد)

وفي المقابل تعالت صيحاتنا لتبلغ عنان السماء:

(لسنا دحل العيد، لا نريد العيد)

ووقفوا قبالتنا، واحتدم بيننا سجالٌ شديد، وحاولنا أن نحلّ المشكلة سلميًا، إلا أنَّ أحدًا لم يتنازل عن رأيه، وتطور الصراع والأخذ والرد، إلى أن تساقطت علينا الحمم من كل مكان، لا تميز بين غني ولا فقير، ولا بين دحلٍ أو لاعب بالدحل، وسُمع دوي إطلاق النار، وشعرتُ بوخزٍ مؤلم في خاصرتي، ثم في صدري، مددتُ يدي فإذا بها تخضبت بالدم، فصرخت بذعر:

(إنني أموت…أُقتل…أستشهد)

وفتحتُ عيني لأرى زوجتي وأولادي واقفين فوق رأسي مشدوهين. ناولتني زوجتي كوب الماء فارتشفتُ منه رشفةً، وأومأتْ هي للأولاد فعادوا إلى فُرُشهم.

وما أن وضعت الكأس من يدي حتى انطلق صوتُ المؤذن يؤذن لصلاة الفجر، فنهضت أتوضأ وأصلي وأدعو الله بالفرج.

وما كدت أنتهي من دعائي حتى انتبهت لضجيجٍ وصخبٍ يعلو شيئًا فشيئًا، أعرتُ انتباهي الشديد كي أعلم ما الأمر، فسمعت دويّ الرصاص يأتي من كل صوب، اجتمعنا جميعنا كبارًا وصغارًا في زاوية الحمام، بعيدًا عن النوافذ، حتى تمر هذه المعمعة المعتادة.

واستمر الحال حتى الغدوة، وفتر الضجيجُ رويدًا رويدًا وتملكتني شجاعة، وساقني فضول إلى الشارع للوقوف على جلية الأمر، ومعرفة ما إذا كانت القرية ستصلي صلاة العيد أم لا.

فعلمت أنهم قد جابهوا المظاهرة التي خرجت من بعد صلاة الفجر من صبيحة العيد بالرصاص.

وناد منادٍ:

فلنشيع الشهيد ياقوم (إنا لله وإنا إليه راجعون).

تملكتني غبطةٌ شديدةٌ. لا والله ليس للمظاهرة، ولا للمواجهة، ولا للشهيد. بل رفعت يدي بالدعاء وتوسلتُ إلى الله تعالى أنْ يتغمَّد الشهيد برحمته، ويسكنه فسيحَ جنانه، فإنّ له فضلًا عليَّ لا أنساه ما حييت، حتى ولو كانَ من غير عائلتي، فقد أسدى إليَّ معروفًا، وأنقذني من ورطة، وفرَّج عني كربةً من كربات الدنيا، فرَّج الله عنه كربة من كربات الآخرة. فلم أعد أهاب مهاجرهم، فدونهم آلاف الدحل باتت تمنعهم عني، ولن أبالي بضيافة العيد وتأنيب زوجتي، فسيُقضى يومُ العيد لا محالة في تشييع جثمان الشهيد إلى مثواه الأخير، ودفنه وتعزية ذويه، وقراءة القرآن على روحه الطاهرة. هذا إن لم يتأزم الأمر أكثر.

ولن يكون في القرية عيدٌ، بل ستكون فيها ثورة.

*من مجموعة ” جمر الحنين”