ينقب الروائي السعودي حامد بن عقيل في طبقات المجتمع المسكوت عنها، مستحضرا أرشيف الأرض والهامش والتاريخ المنسي بأدوات فنية ووعي سردي مغاير. تشكل كتابته استعادة لماض منقطع، ومساءلة حية لخرائط الانتماء، ولمصائر الإنسان العربي الممزق بين ذاكرة مثقلة بالدم، وانزياحات قسرية نحو التلاشي. في رواياته، كما في “منازل الموت”، يواجه الإنسان ما لا فكاك له منه: العائلة، القبيلة، المكان، والموت، حيث يصبح السرد أداة للحفر، ووسيلة للنجاة وسط العتمة.

تنطلق رواية “منازل الموت”، الصادرة عن دار “رياض الريس” في بيروت (2025)، من الطائف، وتمتد في الوديان والخرائط، إذ يقدم بن عقيل ملحمة وجودية تنقب في تربة الزمن عن أسباب الدم، وسيرة العائلة، وأسرار الميثولوجيا القبلية والسياسية، حيث يتداخل المصير الفردي بالجماعي، ويتحول البيت إلى ساحة حرب، والجغرافيا إلى شاهد صامت على تعاقب المآسي.

الجغرافيا في الرواية تسند الأحداث وتدفع بها إلى الأمام. فالمكان يقتل كما يفعل السلاح، مما يجعل من الداير ومعلولة والطائف نقاطا تتجاوز البعد الجغرافي، لتتحول إلى مناطق نزاع رمزية تعيد إنتاج الذنب والخوف والخيانة عبر الأجيال.

تنقسم الرواية ستة فصول تحمل عناوين تشبه الشفرات التاريخية التي تختزل في كلماتها عوالم من الذاكرة والزمان المتداخل. تبدأ بـ”كوباتشي”، ثم “المنزال”، و”الميلة”، و”الوافد”، و”الكراكون”، وصولا إلى “الموت مرتين”.

كل عنوان، بوابة إلى حقبة زمنية محددة، تقف متشابكة ومتداخلة مع غيرها، تتشابك معها الأحداث والذاكرة لتكون طبقات سردية متراكمة. تشكل هذه الطبقات سردا دائريا لا يمضي في خط مستقيم، بل ينثني على نفسه ويعود ليزور الماضي من زوايا مختلفة، فتتكرر الصراعات والآلام عبر أزمان متباعدة، وتبدو الشخصيات محكومة بأن تعيش الدور نفسه مرات عدة، مع تفاصيل جديدة تضيء جوانب مختلفة من المعاناة نفسها.

الزمن في هذا السياق يمر بأنماط متعددة من الحكي، تلتف حول محاور الصراع والذاكرة، وتعيد إنتاج التجربة الإنسانية في دائرة مستمرة من التمزق والانتصار والهزيمة، فتتحول الرواية إلى مرآة تعكس بعمق واقعا تتشابك فيه الهويات، وتتقاتل فيه القوى، وينبثق من رحم الألم سرد متجدد للحياة والموت.

تأريخ الأحداث الكبرى

تدور أحداث الرواية في فضاء سردي يتشابك فيه الخاص والعام، وتتوزع على امتداد زمني يناهز 180 عاما، تبدأ من منتصف القرن التاسع عشر وتنتهي في العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين. وتتوزع مناطقيا على الطائف ومكة ووادي النجل والداير ومعشوقة، لتنسج حكاية أسرتين متصارعتين، آل دسمان وآل الجبري، تجسد من خلالهما الرواية صراع الأرض والانتماء والسلطة.

تذهب الرواية إلى ما هو أبعد من تأريخ أحداث كبرى مثل الثورة العربية، واجتياح الطائف على يد الإخوان، وصراع الحجازيين مع العثمانيين، وبدايات الدولة السعودية الثالثة، فهي تمثل هذه الوقائع عبر مصائر أفراد هشين سُحقوا تحت عجلات التاريخ. تنشغل بالسؤال أكثر من التوثيق، وتعيد بناء الذاكرة على هيئة جراح حية لا تندمل.

حامد بن عقيل

عبر هذه العوالم، تنهض الحكاية على أكتاف أكثر من مئة شخصية، تتقاطع أصواتهم وهم يعبرون من الحب إلى الموت، ومن الحنين إلى العار، ومن البيوت المتصدعة إلى الذاكرة الرافضة للموت. إنها سردية متعددة الطبقات، عن الوطن كجرح، والعائلة كقدر، والتاريخ كفخ متوارث.

الصراع بين الأسرتين يتجاوز البعد الاجتماعي ليجسد مواجهة أوسع: بين القبيلة والدولة، الذاكرة والسلطة، الصوت الفردي والإرث الجمعي. كل شخصية تطاردها لعنة خاصة، وكل فرد مثقل بإرث يستحيل الفكاك منه، فالماضي في هذا العالم يمتد ويستقر في الجسد والنفس والأرض.

تحمل الشخصيات في لغتها وتصرفاتها طبقات من القلق والتورط والتمزق بين الولاء للعائلة والخضوع للقدر التاريخي. نورة، عايد، سند الأعرج، راجح الأشرم، وغيرهم، ليسوا نماذج بقدر ما هم أصوات متناثرة داخل نسيج معقد من التحولات والخذلان. لكل منهم جرحه، ولكل جرح مساحته الزمنية التي لا تندمل. وأكثر ما يميز الشخصيات أن مصائرها مرهونة بما لا تملكه: الشرف، الموت، المصالحة، الدم، النسيان.

وتمثل شخصية راجح الأشرم ملامح التمزق الداخلي لجيل ضائع بين الانتماء والتشظي، لا يتجلى في صورة البطل التقليدي، وإنما في هيئة رجل مثقل بجراح الحروب، يحمل ندوبها ويتركها إرثا لمن يجيئون بعده.

“وصلتُ لأجد العمة شريفة قد سبقتني، كانت تحاول رفع راجي الذي كان وجهه إلى الأرض، والبندقية في يده”. في هذا المشهد، تختزل الرواية مصير راجح: دائم السقوط، لا ينهض، والبندقية تمثل عبئا لا رمزا للقوة، كأنها قدر ورثه دون أن يكون له يد في اختياره.

من الناحية الجمالية، يعامل الروائي شخصية راجح كمن يُكتب عليه ألا يكمل مسيرته، لا في الحب، ولا في القتال، ولا حتى في الكلام. نلاحظ غياب صوته مقارنة بغيره، فهو حاضر عبر نظرات الآخرين إليه، عبر سقوطه، عبر صمته، وكأن اللغة تقصيه كما أقصته العائلة، وكأن صمته يقول: “لم أُخلق للانتصار، بل لأحمل آثار الهزيمة”.

أما نورة، فتمثل الحضور الأنثوي المتخفي، لا تحدث ضجيجا، لكنها تحضر في جوهر الحكاية، مثل ضوء داخلي. يسأل الأب عنها في لحظة احتضاره: “أين هي نورة؟ لماذا لم تأت معك؟”. وكأنها الملاذ الأخير، والصوت الذي يمنح الخراب معنى. إنها لا تصنع الحدث، لكنها تحتفظ به، وتشهد عليه، وتمنحه بعدا إنسانيا نادرا في عالم غارق في الذكورة الجريحة.

سرد دائري ومراوغ

تسير الرواية بسرد دائري يتجاوز الإغلاق على بداية ونهاية بالمعنى التقليدي، فتبدو كابوسا يوقظك منه الألم وحده. تتعدد الأصوات، تتداخل الأزمنة، ويُسلب القارئ الإحساس بالثبات، وكأن المؤلف يريد القول: لا شيء في التاريخ مستقر، ولا حكاية تنتهي. إنها رواية الخسارة الكبرى، حيث كل بيت هو بيت موت، وكل قصة حب تنتهي بفقدان أو خيانة، وكل نصر مؤقت ينقلب بذرة لحرب لاحقة.

وفي هذا السياق الأسلوبي، يمزج حامد بن عقيل بين جمالية اللغة وكثافتها، والطابع الوثائقي أحيانا، ليحفر من خلالها عالما مسموما بالتاريخ، مسكونا بالخذلان. اللغة هنا تسحب القارئ إلى تخوم العاطفة، يتجاور فيها الحنين مع بكاء مكتوم. الجمل مشحونة بطاقة الحزن، وبتوتر سياسي واجتماعي مريب، يجعل القراءة نوعا من المشاركة في العذاب، لا تأمله فقط.

يكتب حامد بن عقيل بلغة تتجاوز القول لتنبض وتضرب في العظم. تتقاطع في أسلوبه نبرة الشعر، مع نفس الحكاية الشعبية، ومراوغة السرد الحداثي. جُمل مشبعة بالإيقاع، مكثفة بالإشارة، وتحرص على بناء أجواء تنضح بالحزن والمفارقة التي تختزل الصدمة والفاجعة في سرد بسيط يحمل بين طياته دوي زلزال داخلي.

كذلك يبرز توظيف اللغة الحية في محاكاة الأصوات: “منذ سنوات وأنا أفتقد حكمة ابن دوخي رحمه الله، وأنا اليوم أشد حاجة إليها ولما سيقوله عما نحن فيه”، الجملة هنا تحمل بعدا تأمليا، وتلخص علاقة الشخصيات بأزمنتها الضائعة: الحنين للحكمة القديمة، والشعور باليتم السياسي والروحي.

الرواية تتناول الموت، وتمضي أبعد منه إلى كيف يتحول الوطن إلى قبر، وكيف يُدفع الناس إلى العيش في منازل تشبه القبور. هي ملحمة عن الخديعة الكبرى، التي توزع فيها الأرض موتا بالتساوي، على المحبين والمجرمين، على الثوار والخونة، على النساء اللواتي ينظرن من النوافذ، وعلى الرجال الذين يختفون في غبار المعارك.

يأتي الموت من الخارج، ويسكن المنازل، ويتسلل عبر أسماء العائلات، ويجلس على طاولة العشاء. إنها رواية عن العطب المستعصي على الشفاء، وعن البيت الذي يفقد معناه، وعن موت يتكرر في داخلنا ويمشي إلى جوارنا، ويردد صدى خطواتنا.

*المجلة