جهتان أساسيتان رسميتان تحتكران النشاط الثقافي في سوريا: وزارة الثقافة، واتحاد الكتّاب العرب.

ومنذ سقوط نظام الأسد، تركزت عليهما أنظار المشتغلين في هذا الفضاء، لترى كيف ستتفاعل الإدارة الجديدة معهما. وبناءً على الأسلوب، يمكن بناء قناعة ما، عن فهم إدارة الرئيس الشرع للشأن الثقافي.

طال الانتظار، حتى حُسمت الأمور خلال الفترة الأخيرة، عبر تعيين وزير ثقافة هو الشاعر والإعلامي محمد صالح، وكذلك عبر مصادقة الإدارة على لجنة تسيير الأعمال التي انبثقت من حوار استمر ثلاثة شهور بين إدارة اتحاد الكتّاب، وممثلين عن رابطة الكتّاب السوريين، واتحاد الكتّاب الأحرار، وجمعية النخبة، والكتّاب المستقلين.

من الطبيعي أن يُثار الجدل حول أي قضية سورية لدى الجمهور المتحفز، وهذا ما جرى حول الحدثين السابقين. لكن حوارات مواقع التواصل الاجتماعي غرقت في القشور، ولم تغُص في عمق القضية. فحول الوزير الشاب، جرى الحديث عن كونه شاعراً تقليدياً، وكذلك غربته عن المشهد الثقافي في البلد، وانتُقد بيتان من الشعر قالهما في حفلة تكليف الحكومة عشرات المرات، حتى كاد الرائي من بعيد يظن أن سوريا بلد لم تدخله الحداثة الشعرية.

أما بالنسبة إلى اتحاد الكتّاب، فقد أسهب الجميع في قصة توقيع وختم أمانة الشؤون السياسية على قرار التكليف/المصادقة، بينما تشاوف البعض على المكلّفين مدعين بأنهم غير معروفين للوسط الثقافي عموماً، والأدبي خصوصاً.

مؤسّستا الثقافة السورية ليستا إنتاجيتين؛ ففي آليات عملهما ثمة استهلاك للمال، من دون أن يكون هناك احتمال عائدية ما. فالوزارة تأخذ من موازنة الدولة، بينما يُنفق الاتحاد على نشاطه ومطبوعاته من سلسلة استثمارات تكفيه، ضمن حيز النشاط المحدود الذي دأب العمل وفقه. وتبعاً لهذا، فإنه من الصعب تصور عمل الثقافي في سوريا كعكةً يسيل لها لعاب البعض من أجل الاستيلاء عليها أو اقتسامها مع الآخرين.

رغم ذلك، ثمّة من يعيش على القليل مما يمكن أن يتحصل عليه من وراء طبع كتاب، أو ترجمة آخر، أو نشر بحث في تلك المجلة، أو مقالة، أو قصة، أو قصيدة، في هذه الدورية أو غيرها.

وأيضاً، هناك من يترصد فرصته في المؤسسات الفنية التابعة للوزارة، كالمؤسسة العامة للسينما، أو مديرية المسارح والموسيقى، أو الفرقة السيمفونية الوطنية، أو في المعاهد الفنية العليا: للموسيقى، والمسرح، والسينما، وغيرها.

لكن هذا كله، ليس بالشيء الكثير، ولا ممّا يستحق أن ينشب من أجله صراع بهدف السيطرة أو الاستحواذ، للاستثمار المادي أو المعنوي. فحتى في الجانب الدعوي، لا تظهر إمكانية للاستفادة منهما، طالما أن المال والوصول الأكبر للجمهور يتوفران في وزارة الأوقاف، وبنسبة أقل في وزارة الإعلام.

غير أن هناك مجاميع من المشتغلين في الثقافة، ظلوا، طيلة سنوات الثورة، يعتقدون بأن جزءاً من انتصارهم على سلطة الديكتاتور البائدة، سيتكرّس عبر القيام بنفض المؤسستين، لجعلهما أكثر قابلية للحرية، وأشد استجابة للطموحات الحداثية، التي تقدمهم للعالم بوصفهم أصحاب مشاريع رؤيوية.

لكن حصول السوريين على حرّيتهم على أيدي جماعات سياسية إسلامية يُنظر لها بطريقة نمطية، مفادها أنها لا ترحب بالأنشطة الثقافية خارج العمل الدعوي الإسلامي، جعل أولئك الذين غمرت الأحلام طموحاتهم يعيدون الحسابات، لتتراجع أولوياتهم من الاشتغال على أعمالهم إلى عتبة الحفاظ على مؤسساتهم الثقافية، وعدم توقفها، والاستغناء عنها.

التطورات التي جرت حول وفي المؤسستين الأساسيتين، بدت وكأنها تريح المتخوفين من الأسلمة. إذ لم يأتِ شيخ ليتسلّم وزارة الثقافة، بل شاعر. يمكنك ألا تحب شعره، لكنه على الأقل ممن يتبعهم الغاوون. بالإضافة إلى أن المكلّفين في لجنة تسيير أعمال اتحاد الكتّاب، متعددو الانتماءات الفكرية، والأهواء الإبداعية.

فهل يكفي هذا لكي يأمل المثقفون أن ينهض الداخل السوري ثقافياً كما يحبون ويشتهون؟

حتى اللحظة، لا يظهر ما يشي بحدوث قفزة ما في السياق المترهل للفعاليات في المدن الكبرى، وكذلك لم نقرأ خبراً عن نشاط قام به وزير الثقافة الجديد، أو بادرت به لجنة تسيير الأعمال التي لم يمض على تعيينها سوى أيام قليلة. وهذا الواقع لا يمكن الاتكاء عليه، بل يجب أن تتجه الأنظار إلى جهات أخرى. وهنا يحضر السؤال عمّا يمكن للكتلة الثقافية الكبيرة التي استقرت خارج البلاد خلال 14 سنة، أن تقدمه لها، ويردف الأمر بأسئلة أخرى، عمّا يمكن للمؤسسات الثقافية العربية والعالمية أن تساهم به، في سبيل استنهاض الواقع الراكد.

يمكن للقائمين على المؤسستين اختبار قدرتهم على الاستجابة للفعاليات الثقافية، من خلال إفساح الفضاءات العامة من مسارح وقاعات وصالات سينما للفعاليات الوافدة. كما يمكن التفكير خارج علبة الكعكة الثقافية الصغيرة، والبحث عن تمويلات تخدم هذا التوجه، إذ لا يمكن البناء على موازنات ضئيلة هي ما تسمح به إمكانات الدولة الجديدة، لإحداث فرق بين الماضي والحاضر والمستقبل.

فإذا كان المعنيون يدركون بأن تكليفهم بالمسؤولية ضمن هذا الظرف أشبه بالانتحار، في ظل تعثّر الإمكانات، وتعرضهم للانتقادات الشديدة، فمن الأولى بهم أن يمضوا في المغامرة بجرأة، وأن يتركوا نتائج تأسيسية، تتذكرهم بها الأجيال المقبلة، وهم يحاولون إصلاح ما خرّبته منظومة الديكتاتورية الأسدية طيلة نصف قرن.

المدن