يطلب مني أصدقاء سوريون وعرب ترشيحات لأسماء شخصيات فاعلة في مجالات الفن والثقافة والإعلام، وأحاول دائماً التملص من إجابتهم عن طلباتهم! يعود هذا لإدراكي أن أي اختيار أقوم به، ستقابله اختيارات مختلفة يقدمها آخرون، لا تتضمن الأسماء ذاتها، وهذا سيجعل رأيي عرضة للشك، حتى وإن كنت أحوز ثقة من يطلب أو يسأل!
دائماً، هناك من يقرر بأن هذا الشخص هو أفضل من ذاك، وإذا خرجنا من الدوائر الضيقة، وذهبنا نحو شبكات التواصل الاجتماعي، فإن السؤال عن التفضيلات، وكذلك الإجابات ومرجعياتها تذهب بالمراقب الخارجي، أي الغريب عن البلد ومشاكله، نحو قراءة الحالة على أنها فوضى، حيث لا يمكن إصلاح ما تسببه من تقليل قيمة أي شخصية فاعلة في مجالها، ودفع بدائل أخرى، لا تمتلك المقومات الأساسية، نحو الواجهة!
ينشر أحد الصحافيين في فايسبوك، طالباً من متابعي حسابه أن يذكروا أسماء “الإعلاميين الثوريين”، فتنسدل لائحة غرائبية من التعليقات، تجتمع فيها ترشيحات من كل حدب وصوب! وربما لو قام الصحافي، بتصويب السؤال، عبر تحديد زاوية الرؤية، لقلّت النتائج. ويمكن لمثال عن هذا أن يشرح العملية المطلوبة. فلو سأل عن المواطنين الصحافيين، أو الناشطين الإعلاميين وفق التسمية الرائجة، فإن عدد الإجابات سيتضاءل، وإذا حدد منطقة أو مدينة أو محافظة هؤلاء، فإن هذا سيسهم في جعل الأسماء أقل. لكنه لو فعل هذا، أو اتبع هذا النهج، فإنه سيخسر التفاعل الواسع، من الجمهور الذي يسعد بالمشاركة، طالما أن هذا لا يكلفه شيئاً، سوى تذكر من يعرفهم، أو من يروقون له، فيهرع لتدوين أسمائهم، ويجتهد أحياناً في منحهم الألقاب التعظيمية.
ضمن هذا المسار، يتحول التواصل الاجتماعي إلى حالة عبث انشطارية، لا تنتهي، وبدلاً من أن يتم البحث في المنجزات والمؤهلات، يصبح الهاجس هو عدد المعجبين، ممن يعتبرون أن مجرد قيامهم بالانضمام للائحة الخاصة بمن يسأل، يمنحهم حق الاختيار.
يتواطأ الشخص الذي يطرح هذه الأسئلة مع جمهوره. فهو يقدم لهم السؤال العام الفضفاض، ليحصل على أكبر نسبة من المشاركات، بينما يحاول الأفراد من الجموع الحاضرة لديه، عبر الإجابات، وضع أنفسهم في الخريطة، أو لنقل حيازة بعض الأهمية.
وعلى مسافة قريبة، يطرح أحدهم سؤالاً عمن ترشحه جموعه من السوريين لحضور المؤتمر الوطني السوري العتيد، فتدب بينهم الحمية الإقليمية والدينية والطائفية، لنصرة هذا الاسم أو ذاك، ويصبح الأمر أشبه بسوق مزدحمة لا تُسمع فيها أصوات “الوشيشة”(*) المتعالية.
ورغم أن صاحب السؤال يدرك أن الدعوات لحضور مثل هكذا مؤتمر، لا ترتبط باختيارات المشاركين في هذه “الحفلة”، لكنه يستمرئ الأمر، ولا ينتبه – وربما يتجاهل- إلى أن صناعة بروباغندا لشخصيات محددة، وبالاعتماد على الآراء الاستنسابية، ليس مفيداً في هذه المرحلة، بل إنه قد يضر، لجهة أن الفائزين الذين يمنحهم جمهور السوشال ميديا الميداليات والكؤوس، قد يكونون خارج السباق في الحياة الواقعية، لأن عوامل الاختيار ستكون مبنية على معايير مختلفة، كالتمثيل السياسي، أو القومي، أو الديني، أو الطائفي، حيث يؤدي هذا التناقض إلى إثارة الشكوك بين أوساط العامة في آليات الاختيار.
كما أن مطالبة البعض بأن يحضروا هم أنفسهم في الفعالية الوطنية، قد تحتاج إلى قيامهم بجمع توكيلات في مناطقهم، أو في المجال الذي يعملون فيه. وهذا النظام اعتُمد في سوريا العام 1919، حين تنادت الفعاليات العامة من أجل حضور المؤتمر السوري العام، الذي نتجت عنه الدولة الوطنية الأولى (المملكة السورية)، والتي قامت فرنسا المنتدبة بتدميرها لاحقاً.
وأطرف ما مر في سياق استعراض نقد الظاهرة، قيام أحد الأشخاص بطرح سؤال عن ترشيحات للعقلاء في المشهد السوري! ومكمن المفارقة هنا، أنك لا تستطيع أن تطلب لائحة بالعقلاء، عبر سؤال لا يقوم على منطق عقلاني. ولو كلف السائل نفسه، وبحث عن معنى المصطلح وتضاعيفه، لاكتشف بأن المحددات أوسع بكثير من أن يضمنها في منشوره الارتجالي. لكن الهوس بالمشاركات والإعجابات يطغى، حيث تصل الأمور إلى ذروة اللاعقلانية، فيدوّن مُعلق أو تسجل مُعلّقة اسميهما في اللائحة، ولا ضير! طالما أن أحداً لا يدقق أو يسأل عما يحدث هنا، في هذه الحالة أو تلك.
يقترح تطبيق “تشات جي بي تي” على الدارسين، تسمية هذه الممارسة الشائعة بـ”عصف الأسماء” أو “حملة الترشيح الجماهيري” في حال قررت مؤسسة ما استفتاء جمهورها، عن شخص غير محدد، ليصل إلى هدف ما. لكن الوجاهة والمنطق يفرضان على الجمهور، ألا يورد أسماء من خارج المجال المحدّد المطلوب، وإذا حدث أن رُشّح اسم من فضاء مختلف، سيكون الحدث ساخراً وغير جدّي!
وفي المقابل يطرح التطبيق تسميات عديدة، للممارسة الفوضوية التي نتحدث عنها الآن، ومنها: “لعبة الترشيحات” أو “تسلية الأسماء” و”ترشيحات المزاج” وأيضاً “لائحة بلا عنوان” وكذلك “حفلة الترشيح العشوائي”. لكنه في نهاية المطاف يُفضل أن نسميها “مطاردة الأسماء”، حيث يكون التركيز على التفاعل في حد ذاته، وليس على الغاية النهائية.
لكن ما لا يدركه التطبيق، أن الموضوع في الحالة السورية مهم، وليس طرفة. فما سأقترح تسميته بـ”فاست فود اللوائح” يغدو الآن كارثة محلية، بعدما بات يحوز اهتمام أصحاب القرار ممن يلتفتون إلى أدوار وأسماء “المؤثرين” في السوشال ميديا، قبل أن يفتحوا صحيفة أو مجلة أو كتاباً ليعرفوا كيف تبدو سوريا ومن خلفها العالم، خارج فايسبوك وغيره من الشبكات.
(*) تعبير مستخدم في سوريا عن أولئك الذين يسوّقون البضائع عبر المناداة عليها بصوت عالٍ، حيث يؤدي تجاور عدد من هؤلاء في المكان ذاته إلى إحداث ضجيج هائل. وقد تم استخدام التعبير، في الإشارة إلى من يقومون بتسويق رحلات البولمانات وباصات “الهوب هوب” في كراجات المدن الكبرى.
*المدن
Leave a Reply