مع عودة إصدار اتحاد الكتّاب العرب في سوريا، لجريدة “الأسبوع الأدبي”، بعد تولّي لجنة تسيير الأعمال إدارته، وظهور أنفاس جديدة في صفحاتها، تختتم الصحافة الثقافية مرحلة كارثية، ارتبطت بشكل مباشر بقيام النظام السياسي بمصادرة الفضاء العام لمصلحة سياساته، وجعل الشؤون الثقافية خاضعة بشكل مباشر لتحكّم من قبل أفراد محسوبين بشكل أو بآخر على “البعث” أو أحد أحزاب “الجبهة الوطنية التقدمية”.
هنا، وفي هذا المسار، سيتذكّر المشتغلون بالقضايا الثقافية، لا سيّما منهم أولئك الذين عاصروا سنوات سبعينيات القرن الماضي، كيف بدأت إصدارات الاتحاد واعدة، وكذلك كيف تداعت شيئاً فشيئاً، مع الإدارة المديدة لرئيس الاتحاد الأسبق علي عقلة عرسان، لتتحوّل لاحقاً إلى إصدارات بلا طعم أو روح، كغيرها، في ظلّ التحوّلات التي أصابت البلد كله، مع تكريس الحكم التسلّطي.
تجربة إصدارات الاتحاد، في مسارها من النهوض إلى النكوص، تنطبق أيضاً على الملاحق الثقافية. فقد فتح ملحق “الثورة الثقافي” في سنوات منتصف السبعينيات، آفاقاً رحبة أمام المثقفين في تلك المرحلة، لكنّ الخراب الذي لحق بالحياة العامة انعكس بشكل مباشر عليه وعلى كلّ التجارب اللاحقة التي حاولت تمثّل ظاهرته، والتي تُعزى في الواقع إلى رغبات أفراد من العاملين في المؤسسات الإعلامية، حاولوا أن يصنعوا شيئاً مختلفاً، ولا يمكن إحالتها إلى توجّه مؤسساتي بيّن وواضح.
تاريخياً، لم تكن الصفحات الثقافية في الصحف السورية الثلاث “الثورة”، و”تشرين”، و”البعث”، متاحة للكتّاب السوريين كفضاء جامع لهم، بل كان النشر فيها يمرّ من خلال فلاتر، تبدأ من النظر في موقف الكاتب من النظام الأسدي أولاً، فالأبواب مغلقة حكماً أمام المعارضين، ولم يحدث في تاريخ سوريا خلال 54 سنة أن فتحت الصحافة أبوابها لأصحاب الموقف إلا خلال أول سنتين من حكم بشار الأسد، أي في الحقبة التي سُمّيت بـ”ربيع دمشق”، والتي انتهت بسجن كل من نادى بالحريات، إن كان في المنتديات أو غيرها.
ثانياً، كان النشر يُقرر وفقاً لطبيعة المادة المكتوبة. فالأفضلية للمقالات المعقّمة من السياسي والجدلي والفلسفي، فلكل جانب هنا إشكالياته التي يفضّل المحرّر ألا يخوض فيها، طالما أن عقول المخبرين الثقافيين مفتوحة للتأويل، الذي يصل إلى مدى واسع في تحميل الكلام ما لا يحتمل.
كما أن النشر في المحصّلة خضع للعلاقات الشخصية، التي تُغلق الأبواب أمام أسماء محددة وتفتحها أمام أخرى، ويكفي أن يتّصل مسؤول ما، أو ضابط، أو حتى مساعد في فرع أمني، من أجل اسم محدد كي تُفتح أمامه الصفحات، لتستقبل كلّ ما يسوّده قلمه على الورق الأبيض!
كل ما سبق جعل مسألة النشر في القضايا الثقافية أمراً عصيّاً على العموم، وصعباً على المثقفين أنفسهم، ما أدّى إلى هجرة الأقلام إلى الصحافة اللبنانية والخليجية. وفي سنوات الثورة السورية، لم يستطع الإعلام البديل، بكلّ الصحف والمجلات التي ومضت ثم انطفأت بسبب توقّف التمويل أو تركزه على الشؤون السياسية والعسكرية والإغاثية، أن يترك أثراً ملفتاً في الشأن الثقافي. وفي المقابل، أُتيح للكتّاب السوريين، بنسب مختلفة، أن يتوجّهوا إلى صحف ومجلات ومواقع إلكترونية عربية فتحت صفحاتها للسوريين ولغيرهم من أجل الكتابة المكرّسة لقضيّتهم.
توزّعت كتابات السوريين على وجهات متعددة. لكن بعضها، وبناءً على الموقف الأخلاقي من الجرائم التي ارتكبها نظام الأسديين، وتبعاً لتبنّيها خطاً ديموقراطياً مدنياً، تميّز عن البعض الآخر في أن جزءاً كبيراً من التاريخ الثقافي السوري الحر، قد ظهر في صفحاتها. وهنا يمكن الإشارة بوضوح إلى صحيفة “العربي الجديد” وموقع “المدن”.
الإيمان بالثورة السورية لم يكن مجرّد عرض عابر لدى بعض المحرّرين هنا، بل كان التزاماً يجب ألا ينساه أصحاب القضيّة ذاتها، وهم يراجعون دفاترهم الثقافية والصحافية على العموم. وكذلك، ما يجب ألا تغفله المؤسسات الثقافية المحلية وقد بدأت تستعيد زمام أمورها، هو أن تستفيد من هذه التجارب، لا سيما مسألة الفضاء المفتوح على كافة التيارات الفكرية والسياسية والإبداعية. إذ لا يمكن لوسائل الإعلام الجديدة أن تجد مكاناً لها في السوق والمنافسة، من دون أن تسعى لاستقطاب الأقلام المكرّسة والشابة على حدّ سواء. وفي الوقت ذاته، لا يمكن لوزارتي الإعلام والثقافة أن تستكينا إلى وضعهما الحالي في ظلّ الأزمة المالية العامة، بل يجب أن تسعيا إلى إعادة إطلاق الإصدارات المتوقّفة، وفق مواعيد ثابتة، وبما يضمن استنهاض المشهد الصحافي بشكل عام، والفني والثقافي منه على وجه التحديد.
على سبيل المثال، يمكن لوزارة الإعلام استغلال البنية التحتية لجريدة “البعث”، التي أُنشئت من أموال السوريين، وإطلاق صحيفة سورية جديدة بدلاً منها، وكذلك إعادة إصدار مجلة “هنا دمشق”، الصادرة باسم الهيئة العامة للإذاعة والتلفزيون، باسمها القديم، وليس اسم “فنون” الذي يبدو عاماً وبلا خصوصية!
وتستطيع وزارة الثقافة أيضاً استعادة تجربة جريدة “شرفات الشام”، التي أوقف إصدارها محرّروها بعد انطلاق الثورة في العام 2011، والإسراع في تجديد طواقم عمل المجلات التي تصدرها المؤسسات والمديريات التابعة لها، مثل “الحياة السينمائية” و”الحياة التشكيلية” و”الحياة المسرحية “و”الحياة الموسيقية”، كي تتابع دورها في تأريخ ومتابعة الأنشطة المحلية والعربية والعالمية.
بوسع الصحافة الثقافية السورية أن تنهض من رماد القمع، إذا اختارت الحرية بوصلتها لا الولاء، وعملت في إطار مؤسسات تؤمن بدورها كحاضنة للتنوّع والإبداع. ولتعمل على إعادة المعنى لما سُلب من الذاكرة والهوية.
*المدن
Leave a Reply