حدث في أوروبا الشرقية في نهاية ثمانينيات القرن الماضي، حين انهارت الأنظمة الشيوعية، أن قامت الجماهير الغاضبة بحملة إزالة للتماثيل، جرى فيها تحطيم كل ما يمتّ بصلة إلى الشخصيات الحزبية التي قادت البلاد بدعم سوفياتي لأكثر من أربعة عقود، وكذلك تحطيم تماثيل عملاقة لمؤسّسي الفكر الشيوعي: ماركس، وإنغلز، ولينين.

منذ ذلك الوقت، سرت بين الحالمين بالثورات فكرة راسخة، تقول إن أول ما يجب إزالته من أمام عيون الجماهير هو تماثيل الطغاة وكل ما يمتّ لهم بصلة.

في سوريا، وطيلة الأسبوع الأول من سقوط النظام الأسدي، كنت، كما غيري، أترقّب سقوط التماثيل واحداً إثر آخر. وأظن أن البعض قد احتفظ بمجموعة صور عنها، ليعود إليها، فيستعيد رمزيتها، ويتذكّر فضل التحرر من الأسديين على صحة العقل والروح.

غير أن التفكير بالرموز وتحطيم الديكتاتوريات من خلالها، لا يمرّ فقط عبر تدمير الحجر المكرّس لتأبيد القتلة والسفاحين، وكذلك تحطيم صورهم المنتشرة في كل مكان، بل إن هذه الخطوة تبدو سهلة وسريعة أمام صعوبة تفكيك التغلغل السرطاني للفكر القمعي وأدواته الأيديولوجية. وقد يظنّ البعض أن تغييراً يلحق بعَلَم الدولة أو نشيدها يمكن أن ينهي حضور المرحلة السابقة. لكن الحقيقة الصادمة تتجلّى في أن نتاجاً هائلاً من الأدبيات والكتب والنشرات والمجلات والصحف قد أُنتِج طيلة أكثر من ستين سنة من حكم “البعث” لسوريا، وأن التصرف مع هذا النتاج يحتاج إلى إدارة وطريقة. وقد يرى البعض أن هذا ليس أمراً عاجلاً، تشغل الدولة أفرادها فيه، وأن المؤسسات ذاتها ستجد أسلوباً يمكّنها من التعاطي معه.

(أكوام كتب البعث)
ه
ذا ما بدأت ملامحه تظهر، حيث أصدر وزير الثقافة محمد صالح تعميماً داخلياً يوجب على مديري المؤسسات التابعة للوزارة إزالة كافة الرموز والشعارات المرتبطة بالنظام السابق. ويقول البعض إن تعليمات صدرت من أجل جمع كافة المطبوعات التي سبق أن أصدرتها الهيئة العامة السورية للكتاب، وتحدّثت عن مآثر الأسديين، ونقلها إلى المستودعات، ولم يُعرف حتى الآن إن كان ثمة قرار صريح بإتلافها.

بعض المتابعين للشأن الثقافي، وبعد صدور قرار بتكليف لجنة تسيير أعمال لاتحاد الكتّاب العرب، تمنّوا عليها أن يكون أول قراراتها هو التخلص من المطبوعات التي صدرت سابقاً وتتضمّن ترويجاً لسردية النظام حيال الثورة السورية. ويبدو أن هؤلاء يتذكرون جيداً زيارات بعض الوفود العربية والأجنبية إلى سوريا بدعوة من مجلس الاتحاد السابق، وكذلك قيامهم بطباعة بعض الكتب التي روّجت لفكرة أن ما حدث في سوريا مؤامرة “إمبريالية” ضد محور المقاومة والممانعة، الذي تشكّل سوريا إحدى أهم واجهاته.

الخطوات المتّخذة ضد حزب البعث العربي الاشتراكي، تمضي على قدم وساق. فهو بذاته صار رمزاً من الرموز المكروهة. ومن دون أن يدقّق المرء في حجم توغّله في المجتمع والدولة، يكفي إلقاء نظرة على حجم أملاكه واستثماراته، ليعرف الجميع أن فصله عنهما، وعدم السماح لغيره بإعادة إنتاج السلوك ذاته، سيضمن للسوريين التحرر من أيديولوجية اتّسم أصحابها بالنفاق، إذ يختصر الناس قصة الحزب بأنه رفع شعار الوحدة فمزّق الأمة، ورفع راية الحرية فبنى عشرات السجون، وقال بالاشتراكية فأفقر الشعب واستولى على ممتلكاته.

ولعل الصورة المتداولة لشاحنة تمتلئ بمئات الكتب والمنشورات المكوّمة فوق بعضها، والتي أصدرها الحزب، تكفي للدلالة على ما يرغب السوريون في أن يتم فعله ضد كل الثقافة التي صنعها وكرّسها.

المقارنة بين ما يجري في سوريا الآن، مع ما جرى في دول الكتلة الشرقية وغيرها في هذا الموضوع، تأخذنا نحو عتبة مختلفة، تبتعد قليلاً عن السلوك الذي يرضي نزوع الغاضبين نحو تحطيم كل ما يتصل بالطاغية القاتل، والتطهّر من الآلام التي سبّبها قمعه، من ندوب راسخة في أرواحهم.

(قرار محافظ حلب)

فبعد الموجة الأولى المتّصلة بنجاح الثورات، والتي تضمنت إسقاط التماثيل، وتحطيم الصور، وإعادة تسمية الشوارع والساحات بأسماء جديدة، وحرق المتاحف الأيديولوجية، ذهبت أنظمة “الحرية” نحو تأكيد مسار العدالة الانتقالية، والتحكّم في أرشيف الأجهزة الأمنية عبر قوننة الاطّلاع عليه، بما لا يسمح بحدوث حالات انتقام فردي. وبالتوازي، جرى إصدار بعض القوانين التي تمنع الإشادة بالماضي ورموزه، وتضبط مشاعر الحنين إلى الديكتاتورية، وهي حالة تصيب مؤيديها، وتلحق ببعض المخذولين من الواقع الجديد.

غير أن كل ما جرى نسجه في سبيل التخلّص من الماضي، لم يكن كافياً لمنع طرح الأسئلة عن آليات حدوثه، وتحليل أثره في من عايشوه، ومناقشة نتاج من مدحوه. وهذا ما جرى فتحه في النقاشات اللاحقة على التغيير السياسي الكبير الذي عاشته هذه الدول.

وبمقاربة هذا الأمر مع الحالة السورية، فإن الوقائع تظهر أن ثمة تلهّفاً واستعجالاً، ليس لحرق الكتب والمنشورات البعثية فحسب، بل لحرق المراحل، بالنظر إلى رغبة المنتصرين في الانتقال إلى واقع أفضل بأسرع ما يمكن.

(تعميم وزارة الثقافة)

لكن بعض المراقبين يسألون عن الضوابط التي يمكن أن تمنع من تكرار المأساة، ويركزون على أمرٍ غاية في الأهمية، ألا وهو قيام مراكز الأبحاث التابعة للدولة، أو تلك المستقلة، بدراسة المدونة العامة للمرحلة السابقة. وهذا يعني أن عملية الانتقال من الماضي القاتم إلى المستقبل المشرق، تحتاج إلى ميكانيزمات أعمق بكثير من مجرد التخلّص من الرموز الفاقعة.

فهل ثمة خطوات واضحة لدى الحكومة السورية الانتقالية في هذا السياق؟

يريد سوريون كثيرون، ممن يبحثون ربما عن طريقة للتصالح مع الماضي، أن يطّلعوا على ملفاتهم لدى الأجهزة الأمنية، ويتوجّهون بذلك نحو وزارتي الداخلية والدفاع اللتين لم تضعا أمام أصحاب الحاجة طريقة واضحة لحصولهم على ما يريدون.

وكذلك، فإن الوصول إلى الأرشيف الثقافي والإعلامي والديني للمرحلة الأسدية، يحتاج إلى طرحٍ واضحٍ وصريح من قبل الوزارات المعنية، أي: الثقافة، والإعلام، والأوقاف. فمن دون موافقتها على طريقة محددة للتعاطي مع هذا الإرث، لن تصبح ممكنة قراءة ما جرى.

تفكيك إرث الاستبداد لا يُنجَز بمطرقة تُسقط تمثالاً، بل بعقلٍ يفتح الأرشيف، ويحلّل السرديات، ويعيد بناء الوعي. وحدها المجتمعات التي تملك شجاعة المواجهة الفكرية مع ماضيها، هي التي تستطيع أن تصنع حاضراً متوازناً، ومستقبلاً أقل هشاشة. ولهذا، فإن واجب المرحلة لا يقتصر على إزالة الرموز، بل على مساءلتها، وفهم شروط إنتاجها، كي لا يُعاد تصنيع الاستبداد بثياب جديدة.

*المدن