تعددت الأعمال الأدبية التي وثقت رحلة النهاية، بخاصة ممن عانوا أمراضاً لا أمل في الفكاك من براثنها، واختلفت صور هذا التوثيق شعراً ونثراً، من خلال صاحب التجربة نفسه، أو من خلال أحد المحيطين به. ومن الذين وثقوا تلك التجربة المريرة بأنفسهم، على سبيل المثال لا الحصر، بدر شاكر السياب وأمل دنقل وسنية صالح شعراً، ورضوى عاشور في “أثقل من رضوى” ومحمد أبو الغيط في “أنا قادم أيها الضوء” نثراً. ومن أمثلة الأعمال التي كتبت الرحلة نحو النهاية، في سيرة غيرية، رواية “باولا” لإيزابيل الليندي عن ابنتها ومكوثها في غيبوبة لفترة طويلة نسبياً، ورواية “بحجم حبة عنب” لمنى الشيمي التي جاءت على لسان أم اكتشفت إصابة ابنها بورم خبيث أودى بحياته.
والرواية التي نحن بصددها هنا، “الحارس يصافح الموت بجناحي فراشة” (دار المرايا) للكاتب طه سويدي، تحكي عن طبيب يعمل في قسم مخصص لرعاية المرضى الذين أوشكوا على الرحيل عن الدنيا. هذا القسم الطبي جاء منه اسم الرواية، ففي عرف المستشفى الذي يتبعه هذا القسم، الفراشة هي كناية عن مريض يقضي ساعاته الأخيرة، ويطلق على ممرضات وأطباء هذا القسم “حراس الفراشات”.
تمضي أحداث الرواية في خطين سرديين، الأول يتعلق بحياة البطل وأزماته التي مر بها سواء في مصر أو في مهجره في غريس تاون، في الولايات المتحدة الأميركية، والثاني مرتبط بعمله، وفيه وظف سويدي خبراته كطبيب. هذا القسم الذي يعيد تشكيل رؤية بطل الرواية للعالم ويجعله ينظر إلى الحياة بصورة إيجابية، ويتخلص من عقدة الذنب التي دفعته للهرب من مصر دون التفكير إلى أي جهة سيذهب، فجاء حظه بالعمل في “عنبر الفراشات” الذي حقق فيه نجاحاً لافتاً على رغم قلة خبرته وحداثة سنه التي لفتت جميع العاملين معه. يتلقى عبارات الثناء منهم: “أنت حارس فراشات واعد” ص40، وكذلك من رئيس القسم “ريتشارد” المعروف بصرامته: “آل، أردت أن أخبرك أن الكل هنا يقدر عملك وطاقم التمريض سعيد جداً بوجودك وتفانيك. انطباعات المرضى عنك طيبة جداً” ص165. وبسبب هذا التفاني الذي أبداه يقترح عليه رئيس القسم الانضمام إلى فريق “الرعاية التلطيفية”.
عنبر منبوذ

رواية “الحارس يصافح الموت” (دار المرايا)
ذلك العنبر الذي يشعر العاملون فيه بأنهم منبوذون، من بقية زملائهم في المستشفى ذاته، وإن أبدوا بعض التعاطف معهم، لا يفضل الأطباء العمل فيه لأكثر من أسابيع قليلة، فما إن يدركوا صعوبة التأقلم معه حتى يطلبوا نقلهم إلى أقسام أخرى، ليتحاشوا مشاهد النهاية المتكررة يومياً. يطلقون عليه “سلة المهملات” أو “القبر الترانزيت”، لا يطيقون تقبل هزيمتهم المتكررة أمام الموت كما يخبر رئيس القسم ريتشارد الطبيب “علي”: “الموت هو هزيمة كل طبيب يا آل، إن الزملاء لا يسموننا سلة القمامة إهانة لنا، وإنما إهانة للموت. طبيب الأورام أو الجهاز الهضمي الذي عجز عن علاج مريضه من السرطان يرسله لنا، معلناً هزيمته، يسمينا سلة القمامة حتى يشعر بأنه تخلص من شيء لا يحتاج إليه، وهو في الواقع غاضب لانتصار الموت عليه وانتزاع مريض منه” ص167: 168.
توثق الرواية رحلة طبيب يطوف على مرضى العنبر صباحاً، يبادلهم حديثاً ودياً وينصت جيداً إلى بوحهم، ومنهم من يطلب الاتصال بمكتب الخدمات الروحية للحديث إلى كاهن، أو الاتصال بقريب له يريد رؤيته قبل فوات الأوان. وهناك من يندم على أفعال ارتكبها وأخرى كان يجب عليه القيام بها ولم يفعل، وفيهم من يرسله نيابة عنه لتقديم هدية لأحد الأشخاص، لأنه لم يعد أمامه وقت كاف لفعل ذلك بنفسه بعدما خانته قواه وتمكن منه جين الموت. يدون الحوارات الأخيرة والتساؤلات التي تدور في أذهان من أحيلوا إلى “رعاية نهاية الحياة”. تكون رغبة البعض منهم فقط أن يتحدث إلى شخص مثلما هو الحال مع المريض رقم 7 الذي فتك سرطان الرئة والكبد بصحته: “شكراً لأنك تحدثت مع رجل ميت دون أن تشعر برعب منه، مثلما فعل باقي زملائك… أتمنى أن أراك وأتحدث معك مرة أخرى” ص180.
أزمات نفسية
وتبقى الإشارة هنا إلى أن هذا الخط السردي المتعلق بالعمل في “قسم الفراشات”، ذاك، هو جزء من الخط السردي العام للرواية التي يأتي سردها بضمير المتكلم لطبيب يعاني أزمات نفسية حادة أفقدته الثقة في نفسه، حاول الانتحار أكثر من مرة، يطارده ماضيه فيما هو يحاول الهرب منه بكل السبل الممكنة، حتى وإن ذهب إلى عنبر طبي يهرب جميع الأطباء منه.
ذلك الطبيب الذي تظهر عليه علامات تشبه الانفصام، من تشظ وانقسام، تطارده عقدة الذنب لتوهمه أنه تسبب في موت أحد أعز أصدقائه، يدعى “فارس”، فغادر بلده ليلتحق بوظيفة طبيب صغير في “مستشفى الأمل” في غريس تاون، غير متذكر متى تقدم إلى هذه الوظيفة التي قبل فيها، ومال في النهاية إلى الظن أنه طلب الالتحاق بها من طريق الخطأ، ففتح له ذلك مجالاً لبدء حياة جديدة.
ومع توالي الأحداث تتكشف حقيقة أن هذا الطبيب مأزوم نفسياً، فـ”فارس” لم يكن سوى “علي” نفسه. “فارس” كان اسمه الحركي في جماعة سرية تطلق على نفسها اسم “كبد بروميثيوس”. يقودها شخص يطلق على نفسه “بروميثيوس” ويقدم نفسه على أنه فنان ومفكر، يحظى بتكريمات في مهرجانات دولية بوصفه واحداً من أهم مثقفي الشرق الأوسط، بما أنه صاحب إسهامات في نشر قيم الحضارة والحرية، لكن هذا الوجه الناصع يخفي وجهاً شديد القتامة، يستغل الفتيات والشباب الطموحين والمنبهرين به لمآربه الخاصة، يدفع بعضهم للكتابة نيابة عنه وهو يمنيهم بالمجد والرفعة والمكانة الدولية التي سيمنحها لهم، ويعتدي على الفتيات جنسياً وهو موقن أنهن لن يبحن بما فعل معهن، لأن الناس لا يمكن أن تصدق أن مثل هذه الأفعال يمكن أن تأتي من رجل في مكانته.
ضد النفس
جريمة القتل التي ارتكبها “علي” ضد “صديقه فارس”، كانت ضد النفس، وحيلة يحاول الهرب بها من الجريمة الحقيقية التي كان جزءاً منها بسبب ولعه ببروميثيوس الذي أعمى عينيه عن الحقيقة، فلم يصدق ما قالته له زميلته في المجموعة وحبيبته “هداية” صاحبة الاسم الحركي “عشتار”، عما فعله بروميثيوس معها، مما دفعها إلى الانتحار: “ألقت بنفسها تحت عجلات القطار، وتركت لعنة ستطارد كل من كذبها وتخلى عنها” ص241. حين استرد بصيرته، حاول “علي/ فارس”، أن يفضح جرائم هذا الوغد، لكن الأخير هدده: “أنا زي ما عملتك، قادر أفنيك، إنت مطرود من دايرتي، لو فكرت تتكلم هتدفع تمن عالي” ص243.
واتت “علي” الفرصة للانتقام من هذا المدعى حين تقرر تكريمه في غريس تاون، فحمل آلة حادة ليطعنه بها، لكنه جبن عن أن يفعل في اللحظة الأخيرة، ويقرر اللجوء إلى أسلوب آخر للانتقام ليس لنفسه فقط، بل لجميع ضحايا بروميثيوس. يقوم بنشر تدوينة على “فيسبوك” تكشف فضائح بروميثيوس، فتنهال التعليقات طوفاناً من شهادات من فتيات غرر بهن بروميثيوس وشباناً كثيراً ما ورطهم في كثير من الجرائم. وهكذا تنتهي الرواية بشفاء “علي” من الانفصام الذي عاناه طويلاً، “فتح الشباك، ملأ صدره بالهواء المالح متلذذاً بالأفق الواسع الذي يمتد إلى ما لا نهاية” ص287.
*اندبندنت
Leave a Reply