هذه فقرة أولى تتوخى المقارنة بين زين العابدين بن علي وبشار الأسد: «إذا قام رأس النظام التونسي بالهرب من البلاد مع بداية الثورة التي اشتعلت في البلاد بعد أن أحرق البوعزيزي نفسه، فإن بشار الأسد أبى الهروب من سوريا إلا بعد حرقها وتدميرها مخلّفاً مئات الآلاف من الشهداء والمعتقلين والمفقودين والمغيبين، فضلاً عن تدمير بنيانها وترك ما بقي من الشعب بين مدمّر نفسياً أو مهجّر خارج بلاده في الدول العربية والأجنبية».
وهنا فقرة ثانية، تمتدح الأسد: «لقد أكد الحوار الأخير مع الرفيق الأمين العام للحزب [الأسد نفسه] عمق رؤيته ونفاذ بصيرته، ومعرفته العميقة بكثير من المشكلات التي ينبغي الوقوف عندها لإيجاد الحلول الجذرية لها (…) السيد الرئيس في هذا اللقاء كان المفكر العارف بوجع الناس ومعاناتهم، والحريص على وضع الحلول لكثير من المشكلات التي نعاني منها».
هل يعقل أنّ الشخص ذاته هو كاتب الفقرتين، وأنهما نُشرتا في المنبر الواحد إياه؟ نعم، يعقل جداً، بل لا يصحّ إلا أن يعقل، إذا كان الكاتب هو محمد الحوراني، رئيس ما يُسمى «اتحاد الكتّاب العرب» في سوريا؛ وإذا كانت فقرة المديح الثانية تعود إلى آذار (مارس) 2024، والثانية القدحية إلى 12 كانون الثاني (يناير) 2025، وكلتا الفقرتين نُشرتا في دورية «الأسبوع الأدبي» التي تصدرها قيادة الاتحاد.
«تكويعة» الحوراني هذه لا يُراد منها، هنا، إضافة مثال آخر على ما بات سوريون كُثر يطلقون عليه تسمية «البديع في فنون التكويع»، خاصة أنها بين الأشدّ ابتذالاً وهبوطاً وانبطاحاً؛ ولكنّ سيرة اتحاد الكتّاب تحثّ على استذكار أحد أبرز ضحايا هذه المنظمة الأقرب إلى مفرزة أمن: الروائي والمثقف والأكاديمي الكبير هاني الراهب (1939ـ 2000)، صاحب «المهزومون» و»بلد واحد هو العالم»، و»التلال» و»شرخ في ليل طويل» و»رسمتُ خطاً في الرمال»، و»الوباء»، وسواها.
حكايته تعود إلى عام 1985 حين شارك في مؤتمر الاتحاد، فأغلظ القول للمكتب التنفيذي، واعتبر أنهم أزلام للأجهزة الأمنية وشرطة رقابة على الأدب والأدباء. بعد أيّام معدودات، اعتُقل الراهب في مطار دمشق وهو في طريقه إلى اليمن حيث كان يعمل مدرّساً بالإعارة، وسُحب جواز سفره، كما فُصل على الفور من وظيفته كأستاذ للأدب الإنكليزي في جامعة دمشق، وظلّ طيلة سنتين ممنوعاً من السفر. البطل الثاني في تلك الواقعة، أو لعلّه الأوّل في الواقع، كان أحمد درغام عميد كلية الآداب إلى جانب موقعه القيادي في الحزب الحاكم، والذي استحقّ لقب «جدانوف البعث» بسبب هوسه بممارسة الرقابة الثقافية والفكرية.
ولقد انفرد الراهب عن مجايليه في خصيصة واحدة، لعلها العلامة المشرّفة الأوضح خلال مساره الشخصي والإبداعي؛ هي تلمّسه المبكّر لمعنى ارتباط الاحتجاج بالحرّية، ومدى الحاجة إلى الديمقراطية على صعيد المجتمع العريض بأسره أوّلاً، ثم على صعيد المبدع بعدئذ واستطراداً. وثمة مغزى في التذكير بأنّ الحديث عن الديمقراطية بدون صفات لاحقة (مثل «الديمقراطية الشعبية» على سبيل المثال) كان في مطالع الستينيات أقرب إلى السبّة؛ لأنّ التبشير العقائدي في تلك الإيّام كان يدرج هذه المفردة في المعجم الإمبريالي وحده، وكان القائل بها يصنَّف فوراً في عداد الطابور الخامس.
وهكذا، ولأنّ درغام وعرسان صنّفاه في صفّ «عملاء الإمبريالية»، مُنع الراهب من الكتابة في الصحف السورية (مراراً، وبقرارات رسمية كانت تصدر عن وزراء الإعلام المتعاقبين)؛ ثم فُصل من جامعة دمشق كما سبقت الإشارة، وخُيّر بين التقاعد المبكّر أو تدريس اللغة الإنكليزية في المدارس الثانوية (وهو الحائز على الدكتوراه في الأدب الإنكليزي، عن أطروحة متميّزة تناولت الشخصية الصهيونية في الرواية الإنكليزية). وبالطبع، اضطرّ الراحل إلى الاستقالة ومغادرة سوريا للتدريس في جامعة الكويت.
وهذه السطور تستذكر الراهب اليوم، بعد انهيار نظام «الحركة التصحيحية»، الأسد الأب والوريث وعصابات الاستبداد والفساد، لأنه كان أحد أبرز نماذج وعي إبداعي انشقاقي، تحلّى بسمات تكوينية وفلسفية وسلوكية مميّزة. وكان ابناً وفيّاً لتلك الأطوار التي شهدت ارتجاج الوعي بالهويّة الوطنية، والموقع الاجتماعي، والموقف الفكري، لمثقف من طراز الراهب: يساري غير ماركسي، قوميّ ولكنه وجودي شبه كوزموبوليتي، ريفيّ متحدّر من بيئات فقيرة، متحالف في الحزب أو الجامعة أو المقهى مع رفيق أو زميل أو صديق مدينيّ برجوازي صغير يشاطره الحساسيات ذاتها، قادم إلى الحاضرة الكبيرة (دمشق، بصفة أساسية) حاملاً عناصر اغترابه وتمرّده على «الحياة الأخرى» وتعطّشه إليها في آن معاً.
وكان العمل السياسي (في حزب البعث أو الحزب السوري القومي الاجتماعي، على نحو خاصّ)، هو بوتقة تعريف ذلك المثقف على الحياة الأخرى تلك؛ وكان أيضاً بوتقة انصهاره فيها أو انسلاخه عن أعرافها وشروطها، وخيرها وشرّها. البوتقة الثانية تمثّلت في العمل الإبداعي، ولم يكن مفاجئاً أنّ تكون الهزيمة الشاملة هي الموضوعة المركزية الطاغية في النتاج الأوّل لمعظم أبناء هذه الفئة.
للراهب، في يقين هذه السطور، نصيب من مناخات الحرّية التي تعيشها سوريا اليوم؛ تلك التي أتاحت للحوراني، أيضاً، فرصة تكويع صارخ، على عينك يا تاجر!
*القدس العربي
Leave a Reply