خلال حياة لم تتجاوز 45 سنة، لم يجد القتلة الفاشيون وسيلة للإجهاز عليها سوى العبوة الناسفة، كان سمير قصير (1960 ــ 2005)، الكاتب والمؤرّخ والصحافي اللامع، الصديق والرفيق والشهيد، قد أصدر حفنة مؤلفات متعددة الموضوع، تؤرّخ للماضي والحاضر، وتستشرف المستقبل، وتتوخى الاجتماع البشري، وتتقرى السياسة في ذلك كلّه؛ على امتداد محاور مكانية وزمانية تعددت بدورها، وإنْ تركزت بصفة خاصة على مواقع ثلاثة لانتماء الراحل: لبنان بحكم الولادة، وفلسطين من جهة الأب، وسوريا حيث محتد الأم.
هنالك عناوين مثل «حرب لبنان من الشقاق الوطني إلى النزاع الإقليمي»، و»ديموقراطية سوريا واستقلال لبنان: البحث عن ربيع دمشق»، و»تأملات في شقاء العرب»، و»عسكر على مين: لبنان الجمهورية المفقودة»؛ ثمّ «مسارات من باريس إلى القدس»، العمل المشترك مع المؤرّخ والناشر السوري الصديق فاروق مردم بك. لكن هذه السطور لا تخفي انحيازاً خاصاً وصريحاً إلى الكتاب الفريد «تاريخ بيروت « L’Histoire de Beyrouth، الذي صدرت طبعته الفرنسية الأمّ في باريس سنة 2003 عن دار النشر الفرنسية «فايار»؛ وترجمته إلى العربية ماري طوق غوش، وصدر عن «دار النهار» سنة 2006؛ وثمة ترجمة إلى الإنكليزية أنجزها م. ب. ديبوفواز، ونشرتها مطبعة جامعة كاليفورنيا في سنة 2010.
وفي تقديمه للترجمة الإنكليزية تلك، وحين كان أحد أنزه وأندر مراسلي الإعلام الغربي في لبنان، كتب الصحافي الإنكليزي روبرت فيسك: «قصة بيروت هي في أوجه عديدة مأساوية ورائعة مثل حياة سمير قصير. محطّ إعجاب، متعالية، حرّة الروح، مكرّسة للتقدّم الفكري والاجتماعي، حيث بيروت القديمة بمدرستها في القانون الروماني كانت شهيرة بقدر بيروت العثمانية بجاداتها وأكاديمياتها المزدهرة وصحفها، وذائعة الصيت كعاصمة لـ›لبنان الكبير› صنيعة الانتداب الفرنسي. ومع ذلك، فقد دمرتها الزلازل وحاصرتها الجيوش، وتعرّض أهلها للمجازر من الحروب الصليبية وحتى الحرب الأهلية سنوات 1975ــ90، وخمسة اجتياحات إسرائيلية و34 سنة من الهيمنة السورية العسكرية».
ورغم ما عُرف عن فيسك من افتتان بمدينة بيروت، فالأرجح أنّ قسطاً غير قليل من هذه النبرة العاطفية إنما يُستجمع هنا بسبب من قراءة كتاب قصير؛ خاصة أنّ فيسك يعتبر الراحل «حلم أيّ صحافي: كاتب، فيلسوف، أكاديمي، مثقف، مراسل؛ يقاتل ضدّ اتصالات التهديد من الشرطة السرية، وفي الآن ذاته يدين أجهزة الاستخبارات السورية». كذلك غطى فيسك واقعة اغتيال قصير، صباح 2 حزيران (يونيو) 2005، في صحيفة الـ «إندبندنت» البريطانية حيث كان يكتب آنذاك؛ فشخّص، مقتفياً أثر الراحل، هوية القاتل: النظام السوري في ذاته، وأذرعه الأمنية والسياسية في لبنان ما بعد اغتيال رفيق الحريري.
وكتاب «تاريخ بيروت» مجلد ضخم يقع في 732 صفحة، ويحتوي على 147 وثيقة مصورة، و17 خريطة (بينها بيروت خلال الأحقاب الفينيقية والرومانية والبيزنطية والصليبية والمملوكية والعثمانية…)؛ و36 صفحة هوامش، وفهرس أعلام يمتدّ على 26 صفحة، وفهرس أماكن شديد الغنى والاتساع والتنوّع. والفصول تتيح للقارئ متابعة تاريخ المدينة في مراحل زمنية تامة أو تكاد، متكاملة ضمن مقاربة أولى، وجدلية بالمعنى التاريخي ضمن مقاربة ثانية موازية؛ الأمر الذي يجعل الكتاب أقرب إلى «سفْر» بيروتي، في مختلف جوانبه السياسية والاجتماعية والمعمارية والثقافية والتجارية، وحتى المطبخية.
مدينتان جارتان لبيروت، دمشق وحلب، يندر أن تغيب أيّ منهما كلما عكف قصير على تحليل الاجتماع والتجارة والصناعة والثقافة؛ ثمّ التاريخ بالطبع، من زوايا متراكبة ومتكاملة تصنع أكثر من موشور واحد سوري ولبناني في آن معاً، وعلى خلفية قاسم مشترك أعظم هو بلاد الشام. ثمة 36 إشارة إلى مدينة حلب، و122 إشارة إلى دمشق، والفصل الخامس يحمل عنوان «طرق الشام»، والفصل السابع (بعنوان «الثورة الثقافية») يحفل بعناصر سورية شتى، وفي الفصل التاسع عشر قسم خاصّ بتناول بيروت بوصفها «جمهورية الآداب العربية»….
هنا، في هذه المدينة، اختار نزار قباني تأسيس دار نشر خاصة به، أصدرت مجموعات الشعرية؛ وفي بيروت صدر ديوان بدر شاكر السياب الرائد «أنشودة المطر» سنة 1960، وإلى المدينة بعث محمود درويش من حيفا أوّل مخطوط شعري له يُنشر خارج فلسطين سنة 1966، وكانت بيروت قد استقبلت في عام 1959 المخطوطة الثورية «أولاد حارتنا»، الرواية التي لم يستطع نجيب محفوظ نشرها في القاهرة.
وفي قلب جمهورية الآداب والفنون هذه، اعتبر قصير أنّ الرحابنة «مؤسسة» نجحت من خلال المسرح الغنائي وصوت فيروز في «رسم صورة للبنان الوطن المعجزة الذي بلغ حدّ الأسطورة»؛ ولكن هذا الخيار لم يمنع الرحابنة من «الوفاء لقضية فلسطين» وتسجيل «عشرات الأغاني في الخمسينيات تخليداً لمجد دمشق». وبالرغم من وجود الرحابنة في بيروت التي تواجه تأثيرات شتى، إنْ لم نقل كوسموبوليتية، فقد «آثروا أن يرسموا على المسرح صورة لبنان، الحلم الذي تجسده قرية لبنانية نموذجية، مسقطين من حساباتهم كل دور تلعبه المدينة».
وعلى الغلاف كان قصير قد اختار لقارئه هذا النصّ من نونوس البانوبوليسي، ابن القرن الخامس بعد الميلاد: «ربّ مدينة تُدعى بيرويه، موئل الحياة، مرفأ ألوان الحبّ (…) أصل الحياة، حاضنة المدائن، شرف الملوك، الرؤيا الأولى، مواكِبة الزمن…». على غرار الراحل الشهيد، في كثير من الجوانب والصفات والأطوار…
*القدس العربي
Leave a Reply