فدوى العبود
كاتبة وناقدة سورية، ماجستير في الفلسفة والأدب، من أعمالها: تلة يسكنها الأعداء.
يتبادل حسين فهمي وميرفت أمين قبلة ملتهبة، أراقبهما من نافذة غرفتي التي تطل على غرفة والدي الواطئة، يخاف والدي من الموت اختناقاً فيترك الباب مشرعاً؛ ومن الباب المفتوح أتابع معه كل خميس فيلم السهرة، دون أن يشعر بوجودي. أتابع القبلة حتى منتصفها؛ وحين يقرر المخرج قطع المشهد أُكْمِلها بخيالي…
لا شيء يفسد سكينة الليل، سوى تساقط قطرات الماء في علبة معدنية ونقيق الضفادع في الساقية القريبة؛ والعواء الحزين للكلاب في موسم التزاوج. كان ذلك كله يشكل مع شخير أبي معزوفة لا تتغير. وهي تتألف من نوتتي الشهيق والزفير يُضاف إليهما حصاد الخيبات والخسارات الذي ينتهي بأنينٍ طويل.
أعرف أنه كان ينتظر هذه اللحظة، لكن النوم يخونه كباقي الأشياء في حياته الخؤون؛ فحين زرع في العام الماضي عمّ القحط، وحين عمل في التجارة أغلقتِ الحدود، ولما قرر الاستفادة من قطعة الأرض ببناء يعيش من ريعه مُنِع البناء، وعندما حفر بئراً أُمِمَت الثروة المائية وحين قرر أن يصير صياداً سُيِّجَ البحر…
كان يصل متأخراً إلى كل شيء، وذنبه تتبّع أثر الآخرين، الذين يسبقونه فيضيع… أخيراً قرر الاعتزال، ليس في المسجد على غرار رجال الدين، ولا في الحقل على طريقة المزارعين الهبيين؛ الذين يطلقون شعورهم ولحاهم ويشردون بين المزروعات، بل على طريقة تتلخص فلسفتها في مشاهدة الحياة دون الغوص في طينها. فقد أمضى حياته يعتقد أن البرك الراكدة بحيرات عذبة، وآن له أن يتعلم.
لكن خديعة من نوع آخر سيتلقاها، وهي أن النجوم الوسيمين والنجمات الجميلات لم يكونوا سوى مهرجين وأنهم سيصبحون في وقت لاحقٍ علامةً على تردي الذوق.
اشترى تلفازاً بالأبيض والأسود، وطرابيزة خشبية بأقدام نقشت عليها أشكال فرعونية، وقرر مراقبة الحياة على الشاشة، مثلما يراقب السجناء السماءَ من خلف القضبان، ومنذ اللحظة التي أدار بها زر (الفتح) لم يغلقه.
كان ينتظر ليلة الخميس، حيث يخرج التلفاز عن روتينه المعتاد ليعرض أفلاماً يتم فيها تبادل القبل بسخاء. (على شاطئ البحر، فوق صخرة، أثناء تأدية الأغاني والرقصات، فوق السرير، وفي الحافلة. لحظة التعارف وعند الوداع) لكنه كان يغفو لحظة تبادل القبلة. فهو لم يكن يعلم أن مخرجي تلك الأيام أذكي من متابعيهم، وأنهم يكرهون المشاهد المتعجل الباحث عن البهجة المجانية، حيث عليك تناول طبق الحساء كاملاً حتى تعثر على قطعة اللحم.
بينما والدتي تنظر ببرود إلى إعلانات القُبَل، تحمل العشاء وتنظف فتات الخبز من بين قدميه وحجره الضخم؛ مذكّرة إياه بالنعمة التي يجب الحفاظ عليها.
منذ سنوات لم يكن التلفاز يسمح بالقبلة، فبمجرد اقتراب الشفاه بضع بوصات تظهر دعاية عن الصابون الحلبي الأصلي، أو علكة سهام والنفس الزكي. لكن ومُذ سمحوا بالقبل ولم يقطعوها وضع والدي حظراً عاماً على التلفاز.
بالنسبة لأمي فقد اكتفت براديو صغير يبث بين وقت وآخر أغنية لمطربها المفضل “محمد عبد الوهاب” وهو يردد بلهجته المصرية:
“جفنه (التي تلفظها كفنه) علم الغزل،
فحرقنا نفوسنا.. في كحيم من القبل”*
ونشدنا ولم نزل حلم الحب والشباب
إن عشقنا فعذرنا أن في وكهنا نظر”*
فالقبل التي ينتظرها والدي ونسيتها والدتي، والتي يَعِدُ المخرج الجماهير بها هي ذاتها التي يَعِدُ الإمام بها المصلين الذين يجلسون في البرد ويستمعون له، يعدُهم بقبل -في “الجنة” طبعاً- وليس في الأفلام، بشرط المحافظة على تشقق أقدامهم وجوع بطونهم.
بالنسبة لي فقد تركت لخيالي -وكما تعرفون ينمو الخيال كوردة الثلج فوق مرتفعات الحرمان- أقول: تركت لخيالي أن يتولى مونتاج (قُبَل) تضاهي في روعتها قبل حسين فهمي، أو رشدي أباظة ودون مونتاج أو رقابة.
بصراحة لا أعتقد أن جدي وجدتي كانا يعرفان لذة القبلة، وإن اختبراها ستكون سريعة ودون روح، فشفاههما جافة على الدوام. هذا الجفاف أصاب شفاه والداتي، والتي بدأت تطلب منا أن نفسح لها بيننا مكاناً للنوم، ما جعلني أشعر بالسعادة؛ لا لأني أغار على أبي، فهذا كان ممكنا قبل أن يتضخم؛ بل لأن رائحتها القرنفلية وحدها ما يجعل نومي هانئاً ودون كوابيس
وفي مقابل تضخم والدي، كانت والدتي تهزل وتسعل على الدوام. تشققت شفاهها، وصارت تنز دماً.
لقد سرقت ميرفت أمين وليلى علوي ما كان لأمي، واسترددت أنا حقها فبينما يغط والدي في شخيره، أنتظر لحظة اقتراب الشفاه؛ وينزع خيالي بضربة مخلب ليلى علوي فأرميها مهمشة مثل فيل صغير جانباً؛ ثم أندس بين ذراعي رشدي أباظة أو حسين فهمي؛ وسأحتاج لوقت طويل بعد ذلك كي أنتبه للعينين البليدتين لحسين فهمي، أو الشفتين اليابستين لرشدي أباظة تحت شاربه المرسوم بعناية.
حين كبرت قررت أني لن أتزوج دون حب، كي لا أنتهي مع أولادي في غرفة ضيقة وشفتين يابستين، ولن أسمح لسينما مصريـــّة بدخول بيتي.
لكن أبي الصامت دوماً، والذي يفزع بمظهره الديناصوريّ أصدقائي؛ مات ولم تتح له متابعة فيلم حتى نهايته، ولا معايشة أبطاله الذين صاروا بفضل تلك القبل من أثرياء العالم، بينما هو وكل الحالمين يتضورون جوعاً…
وجدناه ذات صباح وقد أزبد فمه وجحظت عيناه، غطته أمي بشرشف صغير وقالت بهدوء: نادوا على أقاربكم. بعد دفنه مباشرة، حاولت والدتي إطفاءه من أجل حرمة الموت لكن التلفاز تابع عرض برامجه.
عالج خالي الزر الذي تكلس دون فائدة، حاول ابن عمتي بعضلاته المنتفخة دون جدوى، وبدلاً من وداع الميت تجمهر الجيران حول الرجال الذين يتعاركون في الفناء مع تلفاز ثرثار. في نوبة غضب يائسة صعد عمي السلم وألقى به بين أقدام الناس الذين تركوا التابوت وتابعوا مسلسل التحطيم…
وبعد موته بدأت أمي تشخر بذات النغمة؛ أما أنا فقد تزوجت الرجل الذي أحببته، وكلما زارتني ننام معًا في غرفة واحدة مع ابنتيّ اللتين نبهتاني أن لجدتهما ملمس صدفة سلحفاة.
في الغرفة المقابلة ينام زوجي، يقضي ليله وهو ساهٍ أمام قبل ريتشارد غير وجوليا روبرتس.
زوجي لديه برنامج حديث لتصنيف أفضل القبل السينمائية، وفي قائمتها قبلة كلارك جيبيل، وفيفيان لي في “ذهب مع الريح”، لديه قائمة طويلة (قُبل وسط رشاشات المياه، فوق مرتفعات الجبال والزلاجات الثلجية، قُبل وسط الألعاب النارية الخطرة على طريقة ألفرد هتشكوك)
منذ سنوات صار يرغب بالنوم بمفرده… وصار يتضخم ببطء. وتحول شخيره من ثلاث نوتات إلى نوتتين. أدخل غرفته فأجد أبطاله غارقين في قبلة عميقة على الطريقة الأميركية (قُبلةٌ كتلك التي تحدث في أفلام النصر على الأشرار. كالتي يتبادلها الجنود العائدون من بطولاتهم في العراق وأفغانستان، وفيتنام، قُبل ملحميّة) وهي بخلاف القُبل المصريّة التي كان أبي يشاهدها. تَحدثُ وكأنها نصر مضاعف، بدوافع بطولية لا شخصية محضة، ولا نزواتيّة، يعمل فيها اللسان والأسنان، وشعارات النصر، والجمهوريات، وتحرير الشعوب من ظلامها لتدخل ظلاماً أعتى… متحررة لا يقطعها المخرج، يمكن أن تعيدها من جهاز التسجيل لمرات ومرات… لا تنتهي بانتهاء الفيلم، بل تتابع نموها كوردة سوداء.
أغطيه بالبطانية، أغلق التلفاز، أشعر بحكة في شفتي، أمسحهما براحتي وأنظر للمرآة، فتتلوث بدم قانٍ.
“كان لهما ملمس صدفة”
Leave a Reply