الضوء يبعث الأمل في القلوب الحالمة ويعيد الحياة للقلوب الميتة …إلا في ذلك المكان الأشبه
بجهنم. كان الضوء ينبعث كسياطٍ يجلد الحاضر، ويفتح باب النهايات المؤجلة. فكلما سُمع
صوت الباب الحديدي، تمزقت القلوب والتصقت الأرواح المتراكمة في ذلك المكان القذر،
الأشبه بعلبة الساردين. بعضهم يملك أنفاسه، والبعض الآخر يفكر بنهايته فقط .
في كل مرة يُفتح فيها الباب، ويلمع الضوء الخافت مع ظهور الوحش الذي يسمي نفسه
عزرائيل، ليأخذ أحدهم، وكأنها لعبة قرعة، فتبدأ التساؤلات ويتهامس المساجين: حرق
..خازوق.. أسيد..يا ويله إن كان نصيبه المكبس.
في تلك الزنزانة القذرة، كان بعضهم يرسم الرموز والإشارات على الحائط، والبعض الآخر
يدخل بحالة هستيرية صامتة فتبدأ الأمنيات ليردّد أحدهم
: أتمنى أن أُعدم…يكمل الآخر: لالا الرصاصة أهون ، لكن التساؤلات في زنزانة النساء كانت
تختلف قليلاً، فهي أشبه بالأحلام المختنقة، لتحوي على تساؤل آخر وهو دور من في الاغتصاب
اليوم ؟ هذا السؤال كان كفيلاً بأن يجعل الموت أمنية لهنّ.
وفي وسط نظرات الخوف والرهبة، وفي إحدى الزوايا المليئة بالكتابات والرسومات
والروزنامات التي نُقشت على الحائط بحبات الزيتون، تضع أمٌّ يدها في جيبها بحذر، وترمق
إلى طفلها المنشغل باللعب مع الفئران الصغيرة، لتُخرجَ قطعة خبزٍ يابسة كانت قد خبأتها
لوقت الحاجة، ثم تلمس كتفه بهدوء، وتعطيه إياها لتتدفق نظرات الفرحةِ من عينيه التائهتين،
ويبتسم ابتسامة هشّة وهو ينظر إلى الفئران، ليقاطع ابتسامته صوت الصرخات و فوضى
عارمة في الخارج …ليتوقف الزمن حينها وتتحول تلك الأرواح العالقة، لكتلة ضئيلة. حتى أنَّ
الطفل أوقع قطعة الخبز واختبأ في حضن أمه الهزيل، لتضمه إلى صدرها التي لازالت
خرائط الوطن محفورةٌ عليه ..
تتجه نظرات الجميع نحو الباب كالعادة في كل ليلة ، تداخلت الأصوات والصرخات
وتسارعت نبضات القلب كلما اقترب صوت الخطا باتجاه باب الزنزانة، لم يسمع أحد منهن
صوت مفاتيح السجان كما في كلِّ مرّة ليفجر استماعهم صوت الباب وهو يُخلع ويُضرب بقوة ،
بدأت أصوات التكبير تعلو خارج الزنزانة ، فهرع الجميع إلى الخارج …إلا الأم الخائفة ،
بقيت في ذلك القبر وهي تدمدم بشفتين مرتجفتين وعينين لا تقويان على النظر إلى أحد، لتفقد
الأم طفلها بين هذا الزحام، والركض العشوائي، لتجده بصعوبة في إحدى زوايا الغرفة ،
أمسكت بيده وهربت نحو الخارج ، فوجئت بحشدٍ بشري كبير، أغلبهم لا يقوى حتى على
المشي، لكنهم يزحفون فرحاً بالخلاص للهروب من العتمة التي استمرت لسنوات، كلُّ كان
يبحث عن ذويه …إلا هي لم تجد أحداً بانتظارها، ولم تعرف أحداً من الموجودين.
صعدت بشكل عفوب إحدى السيارات المتجهة نحو المدينة مع طفلها ..تنظر إلى الطرقات
بغصةٍ وحرقة ،لكنها عندما رأت ملامح الحرم الجامعي من بعيد … شيءٌ ما دفعها لتأمر
السائق بإيقاف السيارة نزلت وبدأت تمشي بخطواتٍ حائرة ،تحاول أن تستأصل من ذاكرتها تلك
المآسي التي شهدتها وأن تُسَكِتَ صوتَ صرير ذلك الباب الحديدي، وصرخات الألم والمناجاة،
التي لازالت ترّنُ في أذنيها، لتدخلَ في حالة هذيان بكل خطوةٍ تخطوها. كان طفلها يمشي
خلفها يتمعن بالنظر إلى حرم الجامعة، وبساط الياسمين . كل شيء يبدو غريباً ومجهولاً
بالنسبة له ، يتساءل في نفسه : هل عادت الفئران إلى قطعة الخبز واكلتها، أم لا؟
ثم ركض باتجاه أمه الهاربة من ذكرياتها ومنه ، تشبث بيديها الباردتين، فنظرت والحسرة
تفيض من عينيها، إلى أنفه الصغير الذي تحول لحبة كرز جامدة، لتنثال قطرات ساخنة من
عينيها وتبلل ذلك السواد الذي يقيم تحتهما وتسقي حبات السمسم المنثورة في وجنتيها ،
وتستذكر وجوه تلك الضباع الجائعة، برجفةٍ وهلع لتضع يدها على صدرها وتردد قائلة :
- السجينة رقم 2011 ؟
- الطبيبة الخائنة ؟
- من أكون ؟
- كيف لي أن أُخمنَّ كُنية طفلي ؟
ليقاطع صمتها الصارخ صوت طفلها متسائلاً : - أمي ..هل سنعود إلى ذلك المعتقل ؟
يصمت قليلاً.. يلقي نظرة من حوله، ثم يبلغ ريقه، ودون أن يتلقي أي إجابة منها، يسهب قائلاً
: - لا ..لا أريد العودة إلى ذلك المكان القذر … أريد البقاء في هذا العالم الجميل الذي
لطالما حدثتني عنه …إنه أجمل مما وصفته بكثير!!
رفعت الأم رأسها بعد أن احتضنته، وذهبت باتجاه شجرة سرو معمّرة، نقشت عليها كلمة من
أربعة أحرف في آخر يومٍ لها في الجامعة ..مرّرت يدها على تلك النقوش، رفعت رأسها نحو
السماء لتجد أزهار الياسمين الدمشقية تتراقص فرحاً بقدومها، وتنشر عبقها في أرجاء المكان،
اسنتشقت الياسمين الذي حُرمت منه سنيناً ، أنعشت رئتيها وقالت: - لا تخف يا بُني لم يعد هنالك سجون، كُلنا كُنا سجناء في سوريا الأم، لكن بطرقٍ
مختلفة .
وضعت يدها على الكلمة المحفورة على جذع الشجرة وأكملت : صوت الحق لا يُجنى ولا يُنفى
ولا يموت. وهذه الشجرة، تشهد، و لطالما عصفت الريح بأغصانها وبقيت شامخة.
Leave a Reply