في دعوته أصدقاءه للقاء يُشهر فيه روايته الأخيرة “النشيد الأولمبي” الصادرة حديثًا عن دار نوفل، كان الروائي الصديق راهيم حساوي كما عرفناه، إنسانًا له هويته الخاصة التي ليست على وئام مع الرتابة والنمطية، فقد كان اللقاء في مقهى صغير في أحد أحياء برلين ذات مساء بارد، أضفى حميمية على الاجتماع، وليس كما هو شائع بأن يكون نشاط من هذا النوع في أحد المقرات الثقافية أو في إحدى المكتبات. بدا الأمر كما لو ان الكاتب يريد أن يورطنا في اللعب، كما يمارسه أبطال روايته، اللعب الذي يولّد المعرفة، ويحمل رؤية فلسفية تجاه الحياة، وهو اللاعب المتيم بالشطرنج في الواقع، والبارع أيضًا، حتى إنه لا يقاوم رغبته في التدخل في لعبة بين اثنين يصادفها في طريقه، بعد الاستئذان من اللاعبين كي يقدم رؤيته وكيف للعبة أن تسير، هذا ما شاهدته ذات مرة وأنا برفقته في أحد أحياء برلين.
كنّا مجموعة صغيرة من السوريين والسوريات، وما زلنا تحت وهج مشاعرنا بسقوط النظام في سورية، والأمل في ولادة جديدة. وفي أثناء الحديث عن الرواية، وعن ظروف كتابتها، توقف راهيم فجأة عند كلمة في الرواية متسائلًا عن ورود اسم جامعة تشرين في النص، بينما كانت الإدارة الجديدة في سورية قد غيرت اسمها إلى جامعة “اللاذقية”، هذا التساؤل ولّد في ذهني أيضًا سؤال الكتابة، وسؤال القراءة في الوقت نفسه، في مراحل انتقالية بالغة التعقيد كالتي تمر بها سورية. ففي هذه المرحلة تنتابني حالة من فوضى المشاعر والأفكار، ربما يشترك معي فيها كثيرون ممن يشتغلون في الشأن الثقافي، الأدبي منه تحديدًا، ترخي بثقلها عليّ فأرى نفسي أعاني صعوبة في الكتابة. في الوقت نفسه راودني سؤال آخر لا يقل أهمية عن هموم الكتابة: هل سنقرأ ما كُتب في سنوات الثورة السورية، أو الأزمة أو الحرب أو غيرها من التسميات، بعين أخرى، نحن الذين عشنا هذه المرحلة وكنا شهودًا عليها؟ وماذا عن الأجيال القادمة؟ هل قدمنا، نحن الأدباء، في أعمالنا جزءًا من الحقيقة التي كنا شهودًا عليها؟ وهل ارتقت أعمالنا إلى المستوى المعرفي والجمالي اللائق بالأدب؟ ربما الأجيال القادمة تمتلك مفاتيح النقد لما كتبنا.
رواية “النشيد الأولمبي” واحدة من الروايات الكثيرة التي كتبت في ظل هذه الأزمة المديدة التي عقّدت الحياة في سورية، بل ودمرتها، منها ما كان توثيقيًا كما لو أنه بحث أو دراسة أو مقال صحافي أو كاميرا تلفزيونية، ومنها ما كان يشبه حلبة تتصارع فيها الأفكار، السياسية منها تحديدًا، ومنها ما كان مهتمًا بالقضايا الاجتماعية أو الاقتصادية والمعيشية، وغيرها، منها ما كانت المباشرة فيه تؤثر على الناحية الجمالية وتسلب النص روحه، ومنها ما كان يحاول أن يحافظ على هوية هذا الجنس الأدبي، ولقد كتبت بعض النصوص المهمة حقيقة.
لكن هذه الرواية التي اتخذت من اللعب تيمة مهمة لها، رسمت نسقها الخاص، فقد ابتعدت عن السياسة والتنظير، حتى لو كان “الراوي العليم” الذي حمّله راهيم مهمّة السرد، يتميز صوته وهو يتدخل في تبرير وشرح بعض الحالات والمواقف والتداعيات النفسية لشخصيات الرواية، لكن الرواية كنص كامل تلعب في مجال آخر بعيدًا من السياسة، إنما تتلقف الهزات الارتدادية للزلزال السوري، وتحاول، عن طريق الغوص في التركيب النفسي لشخصياتها، التماس قاع عميق تنمو فيه بذرة الحقيقة الإنسانية والتوق نحو الخلاص، فيأخذ من مدينة اللاذقية، ومن بيت إحدى الشخصيات “علياء”، مسرحًا لهذا السبر وتلك الرؤية، بيت في مدينة كانت تتلقى هزات الحرب من دون أن تكون منطقة ساخنة: “ثمة مدن ساخنة في الحرب، ومدن باردة يموت سكانها بتلف الأعصاب حتى لو كانت آمنة بدون حرب أو قتال”.
فعلياء ذات التسعة وعشرين عامًا تحمل شهادة الأدب الإنكليزي من جامعة تشرين، تعيش مع أبيها الستيني المتقاعد، والمصاب بالسكري، مات أخوها رواد في أثناء تأديته الخدمة العسكرية في الحرب الدائرة، وربما انتحر، وماتت أمها حزنًا عليه، اما أخوها الأصغر فادي فقد هاجر إلى أوروبا رفقة خاله المسمى فادي أيضًا، وأختها تعيش مع أسرتها في دولة الإمارات، يدخل حياتهم في البيت بديع، الشاب الذي أجهضت أحلامه في الانتساب إلى المعهد العالي للفنون المسرحية بسبب تعنت عضو من أعضاء اللجنة كما يزعم، ولّد عنده إحباطًا كرّس الهزيمة في داخله، لكنه أضمر تحديًا وإصرارًا على أن يثبت موهبته، وصار فردًا من أسرة علياء وهو على خلاف دائم مع والده صاحب المطعم، يسلّي والدها خاصة باللعبة التي اخترعتها علياء “عجن الكلام”. أما صفوان فهو ضابط أمن يلعب لعبة السلطة، فيمارسها وكأنه لا يعرف أي وجه آخر للحياة، تتعرف علياء من خلاله على طيار روسي “لوكاس”، لديه ماض عائلي أثر في مستقبله ولم يتصالح معه إلا بعد أن غسل الحب أعماقه، حبه لعلياء، فقد كان لاعب شطرنج، اللعبة التي أحبها وشجعه والده عليها، لكن بعد وفاة والده، وأمه في الخامسة والأربعين، وهو في سن المراهقة يكتشف علاقة عاطفية بين أمه ومدرب الشطرنج ديمتري، الذي مارس الحميمية مع أمه بخديعة لوكاس المراهق، فولدت عنده نفورًا من اللعبة، أو قطيعة معها والتحق بالأكاديمية ليصبح طيارًا ويأتي إلى قاعدة الحميميم التي منها كانت تنطلق الطائرات الروسية لقصف المدن والقرى السورية ودعم النظام في حربه ضد الشعب. وهناك شخصيات أخرى كصاحبة بوتيك الألبسة المستعملة جوجو التي تزوجت من جبران ثم استقرا في دمشق واستلم بديع البوتيك من بعدها، وسوسن النادلة في مقهى “زهرة عباد الشمس”، ابنة مهران لاعب الشطرنج والمغرم بالموسيقى الذي مات أيضًا، كذلك أبو ريحانة صاحب كشك القهوة الذي قتلت ابنته ريحانة في عز شبابها.
عن اللعب
شكّل اللعب تيمة رئيسة في الرواية، فمن يقرؤها سوف يستخلص أن الكاتب يرى في اللعب فلسفة لفهم الحياة؛ “الألعاب من أعظم الأشياء التي عرفتها البشرية، وفكرة الألعاب ليست مجرد تمرير للوقت، بل تحمل في طيّاتها الكثير من رغبات الإنسان، إنها ليست حكرًا على الصغار أو على أصحاب المواهب، فلا علاقة لمفهوم اللعب بتلك البطولات التي تتيح المجد لأصحابها، خصوصًا تلك الألعاب التي تحدث بين الأفراد بمعزل عن الامتيازات التي يصل إليها اللاعب كالاحتراف والبطولات، لولا الألعاب لكانت نزعة الإنسان نحو الألق عبارة عن ضجر لا متناهٍ، فأصل الألق مرتبط بمفهوم اللعب”. لذلك كان السرد ميدانًا لألعاب متنوعة، أهمها لعبة الشطرنج، ولعبة ابتكرتها علياء “عجن الكلام”، واللعب المسرحي، وغيرها أشكال أخرى من اللعب.
فلعبة عجن الكلام التي تقوم على التقاط جملة عابرة من حديث يدور بين شخصين، من دون معرفة سياقها كانت تولّد عند علياء فضول رسم سيناريوهات كما لو أن الحياة تخفي احتمالات كثيرة تثير فضول المرء لرسمها واسترسال خياله في فبركتها “كما لو أنه يكتب سيناريو لدقيقة أو دقيقتين، كما لو أنه يشارك شخصًا آخر في هذا اللهو إلى أن تصبح لعبة بينهما”.
أما لوكاس هاوي الشطرنج في طفولته ومراهقته، فكان لما اعتبره خديعة بحقه من قبل ديمتري ووالدته دور في حرف اللعب لديه، مبني على جملة قالها له ديمتري حينها “سيأتي يوم وتفهم، كأنك تقف على بلكون وترى العالم من فوق، كما لو أنها النهاية”، ستقوده الجملة لأن يصبح طيارًا حربيًا في الجيش الروسي، “ليرى العالم من فوق… ذلك المكان الذي اعتبره ديمتري مكانًا جيدًا للعلو، سيراه لوكاس بمثابة هدف عسكري يمكن إطلاق صاروخ عليه بكبسة زر كمسألة تتعلق بالنهايات، كخديعة مثل الحرب والسياسة”، وانطفأت رغبة لوكاس في لعب الشطرنج. يتألق السرد في الإحالة إلى لعبة الشطرنج واستخلاص الأفكار والرؤى الفلسفية منها “وأكثر ما كان يغريه الحركات التي تجعل الطرف الأخر يعيد التفكير في ما يقوم به”.
اللعب الآخر هو المسرحية التي أدى البروفا الخاصة بها فريق يتألف من بديع وسوسن ورجل آخر في بيت علياء، أعدها بديع مستوحاة من مسرحية “مطعم القردة الحية”، حضرها لوكاس الطيار الروسي الذي كان قد وقع في حب علياء، وصفوان ضابط الأمن السوري الذي استطاعت علياء أن تنبش من أعماقه كل العفن والقسوة المتراكمين، وتجعله يرى عقم حياته وما كان محرومًا منه في لعبه دور السلطة “في الوقت الذي تشغل به نفسك بالحفاظ على أمن الدولة، عليك أن تبحث عن الحنان الذي تفتقر إليه”. كما استطاعت أن تعيد لوكاس إلى شغفه بالشطرنج “بعد أن كان سلاح الجو قد مزق روحه، وتراكمت غشاوة على عينيه من رؤية الخرائط، ومؤشرات الرادار، وأصابه الضجر من الحروب وأمجاد البلدان”، فقد شعر بأن “ما يحدث في بيوت اللاذقية غير ما يحدث في تلك القاعدة العسكرية”.
يطرح الكاتب أفكارًا ورؤى فلسفية حول الحياة والموت والحب والحروب، فهو يرى أن “حياة المرء شاسعة، وحين يتوه فيها يكثفها في زاوية واحدة ليجد نفسه”، والانتحار “كان وسيبقى المأساة الحقيقية في تاريخ البشرية، إذ يفتقر المنتحر إلى تلك اللحظة الفاصلة بين الوعي والنهاية”.
يغوص في عمق المفاهيم الفلسفية، فعندما كانت والدة لوكاس تمارس الحب مع ديمتري على البلكون، ترد جملة تحمل بعدًا فلسفيًا، عندما يصف لوكاس وهو يراهما “يخرجان من البلكون”، إذ ينقلب البلكون أو الشرفة إلى “داخل”، وينقلب الداخل إلى “خارج” ما يحيل إلى فلسفة المكان، وأن الحدث أو الفعل الإنساني هو ما يمنح الأمكنة صفاتها أو جغرافيتها وحتى مفهومها.
مع هذه المشاعر العالية التي انتابت الجميع في أثناء مشاهدة البروفا في بيت علياء، والتي جعلت من ديمتري يعيش لحظة عارمة يشعر معها أنه “لم يبقَ أمامه سوى أن يقلع بطائرته من قاعدة حميميم ليحوم فوق سماء اللاذقية وفوق بيت علياء، ليرمي الورود وكثيرًا من أحصنة الشطرنج، وكذلك قصاصات ورق عليها كلمات حب لعلياء، وبعد ذلك يسلم نفسه لقادته، ويصبح حديث الناس في دمشق وموسكو، هكذا مثال افتتاح دورة للألعاب الأولمبية”، تنتهي الرواية وكأن الحياة تستعيد جوهرها الجدير باحتفالية كافتتاح دورة الألعاب الأولمبية، إنه نشيد الحياة.
وهكذا، وبلغة تقترب من الشعرية، تزدهر الحياة بالحب والفن بعيدًا من السياسة والحروب وصراعات القوى الكبرى في العالم، وتتفتت السلطة كما انتهى صفوان تحت يدي علياء التي وضعته أمام حقيقته “وكان رأسه مسدلًا نحو الأسفل دون حراك”.
*ضفة ثالثة
Leave a Reply