تائه وحده في تلك المدينة المنسية، يبحث عن شبهه في وجوه الغرباء ..يتأمل أضواء جسر مدينته التي
تضيء حزن هذه المدينة ، كان أسامة يسير بخطوات متثائبة، يخبئ الذكريات في معطفه ، يفرك يديه
الباردتين ببعضهما ..يشعل سيجارةً، لكن المطر يطفئها .
التفت خلفه فجأة، بعد أن سطع عليه ضوء السيارة القادمة من بعيد. أشار بيده آملاً وقوفها لتقلّه إلى بيته،
لكن السيارة لم تتوقف، بل و تمايلت بسبب رعونة راكبيها الذين كانوا أشبه بالزومبي من كثرة التعاطي .
كانت خيبته مما شاهده، أشبه بخيبة طفل هرول إلى أمه باكياً، لتحتضنهُ فتلقّى صفعة منها ليتوقف عن البكاء
ويطبق فمه مكملاً طريقه، وهو يدمدم بعض الكلمات من السباب ، لم يتفاجأ فهو معتاد على رؤية هذه
المظاهر كل ليلة، لكنه يكتفي بالسباب فقط.
ضوء سيارة آخر، قطع عليه دمدمته .. تكاسل أن يرفع يده لكن البرد أجبره على التأشير لها، دُهشَ حين
وقفت السيارة. فتح الباب ليفاجئه وجود طفل لا يتجاوز من العمر عشر سنين.
تمحص ثياب الطفل المتسخة، خشية تلوّث ثيابه إذا جلس إلى جانبه ، فقاطعه صوت الطفل
- اصعد يا عم : تفضل
انسته لباقة الطفل بالحديث، ما كان يفكر فيه، ليصعد مباشرة ، ودون أن يلقي التحية، خاطب السائق
_ هل هو ابنك ؟
السائق : لا ..إنّه راكب مثلك تماماً.
لم تتوضح له معالم وجه الطفل بسبب كمية الزيوت والشحم الكبيرة على وجهه لكنّ ابتسامة الطفل كانت
صارخة، وكفيلة بإعطائه مساحة من الأمان.
كانت يدا الطفل أشبه بحبة الكمأ ، ولمعة عينيه كسراج يضيء في شارع مظلم، مما دفعه لفتح حديث معه:
_ الوقت متأخر جداً، مالذي أخرّك في هذا الليل ؟
الطفل : عملي ، اليوم هو الخميس، وقد تأخرت، حتى يحاسبني صاحب الورشة التي أعمل بها في المنطقة
الصناعية.
وأسهب قائلاً : على فكرة أنا لست عاملاً، أنا معلم في مهنتي، وأعمل بها منذ ثلاث سنوات ، حتى أنّ
معلمي يجلس ليشرب النرجيلة، وأنا من يقوم بصيانة السيارات ، بنفس الوقت أصحاب السيارات دائماً ما
يكرمونني، وبعضهم يكتفي بالصراخ علي فقط.
أسامة : كم تتقاضى أسبوعياً ؟
الطفل : 25 ألف ليرة سورية
_ ستدفع منها الآن عشرة آلاف فماذا سيبقى لك ؟
_ لقد أعطاني معلمي أجرة السيارة الخاصة لأنه أخّرني .
ليقاطع حديثهما فجأة صوت السائق :
_ ومالذي يمنعك عن الدراسة وإكمال تعليمك مثل أقرانك من الأطفال ، لينفعل الطفل ويرد بنبرة حادة :
_ أنا لست طفلاً ، أنا رجل. هكذا تقول لي أمي التي أصرف عليها وعلى أخوتي، منذ وفاة أبي.
لمعت عينا السائق وامتلأت بالحزن مردداً :
_ حسبي الله ونعم الوكيل .
حاول أسامة نسيان الحديث الذي سمعه قبل أن يصل بيته بمسافة قصيرة، لكنه لم يستطع، مضيفاً ما سمعه،
إلى قاموس نكباته في هذا الوطن الأشبه بالغربة ،
جهّز نفسه للنزول.. دسّ يده في جيبه مخرجاً مبلغاً من المال لسائق السيارة لكنّ يد الطفل ارتفعت فجأة
لتمنعه، مقاطعاً حركته :
- لا تدفع ، الحساب واصل، لقد دفعت أنا، وطريقنا واحد. قال بنبرة الرجل الشهم، وهو يضع يده
على صدره .
صمت أسامة، أما سائق السيارة فقد اعاد أجره للطفل، ولم ياخذ شيئاً.
بينما كان أسامة يترجّل من السيارة سأل الطفل :
_ لم تعرّفني باسمك يا…
_ قصي ياعم، اسمي قصي.
أغلق أسامة الباب مركّزاً نظره على الطفل قائلا:
_ لقد صدقت يا قصي ..نعم طريقنا واحد .