قبل الوصول إلى دمشق، كان علينا أن نمرّ عبر بيروت، إذ إنّ مطار دمشق الدولي مُغلق، ولم أعد أحتمل الانتظار! تلك الحيرة التي رافقتنا طوال السنين الماضية، نبحث عن وطنٍ ينتمي إلينا ولا نجد سوى الغربة. في السيارة من بيروت، أسمع صوت الدرون، ذلك الدرون الإسرائيلي المألوف لأهالي بيروت والغزّيين على حدّ سواء. حاولت رؤيته، لكنّه ظلّ غير مرئي، وكأنه ظلّ يرافقنا حتّى غادرنا بيروت.

عند الحدود، في منطقة المصنع، بدأ الصقيع يتسلل إلى أطرافي. كنت أترقب الفرح، لكنني شعرت بانقباضٍ رهيب. لا أحمل أي إثباتٍ أو وثيقة تؤكد أنني سوريّة، لكن هذا لم يكن عائقًا أمام الشاب اللطيف خلف المكتب. عندما رأى اسمي على شاشة الكمبيوتر، ابتسم وقال لي: “أنتِ على راسي”. للحظة، شعرت بأنّ الأسد قد سقط، ثم راودتني أفكار عن احتمال اعتقالي. قال لي الشاب ممازحًا إنني مطلوبة لخمسة أفرع أمن، لكنه أكمل ضاحكًا، وبضحكته وجدت نفسي فجأة داخل سورية.

السماء الزرقاء كانت واسعة، والغيوم بيضاء ناصعة. الطريق الملتفّ بين الهضاب ينحدر ويتلوّى نحو العاصمة. آثار السيارات المحترقة وبقايا الحواجز الأمنية لا تزال تروي قصصًا من الألم والرعب. حاجز الفرقة الرابعة يلوح لنا في الطريق، ثم آخر وآخر…

تمشي في سورية وكأنّك تعبر عبر سورياتٍ متعدّدة

أنظر إلى المكان وأسأل نفسي: لماذا عدتُ؟ ولا أعرف الجواب. لا أطيق اللغة وتعبيراتها البكماء في مثل هذه الحالات. شباب الهيئة الذين ينتشرون على الحواجز يبدون متعبين، ولكنهم قادرون على الملاطفة والكياسة. نرفع أيدينا بالسلام، فيردّون التحية بفخر. يبدون مثقلين بالهموم.

لا أعرف كيف أُبهج نفسي أو أفرح، وأنا أراقب الطرقات والآليات العسكرية المدمرة، والسيارات المدنية والعسكرية. الطريق المنحدر يبدو صحراويًا. أحاول تذكّر طريق بيروت – دمشق كيف كان، ولا أفلح. في رأسي فراغٌ كامل.

ثم ندخل دمشق. لا أعرفها تمامًا. لم يكن مرّ زمن طويل حتى أنسى، لكني لا أذكر! أشعر بأنّها لا تتعرف إليّ أيضًا، وتلفظني. لا تتعرف إليّ ولا أتعرف إليها. نحن غريبتان.

تبدو الرثاثة والتهالك في كل زاوية فيها، في كل تفصيل. بشر يعبرون الطرقات، متعبين، مسرعين. زحام شديد. لا يوجد شرطة، لا يوجد ما يوحي بوجود سلطات ما. لون الغبار يلوّن حتى السماء. الأرصفة متشققة. البسطات منتشرة في كل مكان. المحلات الفارغة تتزاحم أمامها بسطات عشوائية من المنتوجات البلاستيكية، تشكل امتدادًا لشكل المدينة. في كل مكان البسطات، في أي زاوية.

الأطفال ينبتون من الأرض ويشحذون. الرجال ذوو القامات يشحذون. النساء يشحذن. طابورٌ طويلٌ من البشر يتدفق ويشحذ. وبشرٌ مرميّون على الطرقات.

في الفندق، يختلف الوضع قليلًا، لكنّه أيضًا متهالكٌ يدعو للرثاء. يخبرونني أنّه صارت هناك فنادق فخمة للأغنياء الجدد. وأين هي؟

لا يوجد لديّ حنينٌ من أيّ نوع كان. نسيت الكثير من التفاصيل. أعرف المخارج الرئيسية للطرقات في دمشق، لكنني أحاول التدقيق في الوجوه الجديدة التي تظهر في المدينة. لا أتعرف على وجهي في مرآة سائق السيارة. هذه ليست أنا! الناس يعتقدون أنني سائحة، ولمجرد أنهم يفعلون ذلك، أشعر بغصّة كبيرة.

ساحة يوسف العظمة بقيت على حالها، وربما جدّدها أحدهم. دمشق بلا صور الأسدين، بلا أثرٍ لتماثيل. في مقهى الروضة، يجتمع أناس كثر. قبلات وأشواق بين العائدين وبين المستقبلين. أحاول مدارة خجلي من فكرة أننا نعود الآن بعد هذا الوقت الطويل، ننظر إلى الأماكن وكأننا نراها للمرة الأُولى.

أراقب ما يحصل حولي وأحاول فهم كل شيء. أحاول فهم لغة العنف في السلامات، وأتجنب تلك النظرات، نظرات من عرفناهم وفي لحظة ما كأنهم يقولون لنا: “نحن من بقينا”. لا أحد يقولها بوضوح، لكنّها ظاهرةٌ في الملامح.

الفرحة تبدو على وجوه الجميع. أحاول التفكير بأنّ كلّ هؤلاء الداخلين والخارجين إلى هذا المكان في حالة نشوة، غير مصدقين أنّهم هنا في سورية من دون عائلة الأسد. يرقصون، يضحكون، ويبتهجون.

أنظر إلى ذلك الرجل الذي يقف أمام باب مقهى الروضة يطلب ثمن رغيف خبز. في شارع الصالحية، الخوذ البيضاء يقومون بغسل الشارع، ومجموعة شباب يطلون بعض الواجهات وينظّفونها. مبادرات مدنية تنتشر في كلّ مكان، تحاول تغيير وجه المدينة الكالح.

يريد السوريون أن يعودوا للحياة. صار لهم، كما يعتقدون، مستقبل وأمل بأيام قادمة.

تمشي في سورية وكأنّك تعبر عبر سورياتٍ متعددة، في طبقات متداخلة ومختلفة. هناك أنشطة للمجتمع المدني، أمسيات، حوارات، وشباب وصبايا ينظفون الشوارع بحماس. هناك من يدور على البيوت ليمنح مساعدات، وهناك رجال الهيئة الذين يجوبون الشوارع دون أن يؤذوا أحدًا. أحاول في كل مرة أن أقترب منهم وألقي السلام. أحب تلك العبارة: “السلام عليكم”، ويجيبونني ببهجةٍ وفخرٍ في آن واحد. يبدو عليهم أنهم، مثلنا جميعًا، يستغربون ما يجري حولهم.

دمشق هي طبقاتٌ من جحيم دانتي، لكنّها تسير متوازية في إيقاع متسارع. في شارع واحد، تستطيع أن ترى عدة سوريات تعبر أمامك، تتداخل وتتصادم. لا يوجد هنا بحث عن الحب أو بياتريس كما فعل دانتي. أنا أبحث عن مدينتي، وأبحث عن نفسي، وفي الوقت نفسه أحاول الاختباء من كل المعارف. لا أستطيع الابتسام، ولا أملك طاقة للعناق بحرارة.

أسمع من حولي همسات: “الإسلاميون استلموا الحكم”. الناس يرددون هذه العبارة في أماكن متعددة. الجميع ملّ من النظام السابق، حتى مؤيّدوه. هؤلاء أنفسهم صفّقوا للقادمين الجدد. النظام السابق لم يترك أي فرصة حتى لمواليه. الجميع الآن يشتم، لكن لا أحد يعرف إن كان هذا من الخوف من السلطات الجديدة، أم من القرف واليأس من إجرام الأسد.

الكل خائف. الكل يترقّب.

في باب توما، أرى العائدين في كل مكان، نشطاء، صحافيين، وناسًا جاؤوا من بلاد الغربة. تمتلئ فنادق باب توما بالعائدين الذين لم ينتظروا طويلًا. الكل مشتاق للعودة، لكن باب توما لم تعد كما كانت. يحاول الناس ألّا يخرجوا ليلًا. هناك أنشطة كثيرة في كل زاوية، وهناك من يقول: “لقد عدنا لنبني سورية”. لكن لا أحد يعرف إن كانوا سيعودون بشكل دائم أم إنها مجرد نزهة لإطفاء الأشواق. الاحتمالات مفتوحة، وأنا أراقب طبقات الجحيم، متنقلة بثقل كبير بين طبقة وأُخرى.

ذهبت إلى ريف دمشق. في جوبر، المدينة المدمرة كلّيًا، القريبة جدًّا من ساحة العباسيين، يختلف العالم تمامًا. نخرج من الزحام الخانق والهواء الملوّث إلى مدينة أشباح. أنظر إلى وجهي في مرآة السيارة محاولًة التعرف على نفسي والهدوء، لكنني لا أجد نفسي هناك. أهرب من وسائل الإعلام. لا أحد يصدّق أنني لا أملك كلمةً واحدةً تستطيع التعبير.

أفكّر دائمًا في قدرة اللغة على التعبير في حالات مماثلة، وأشعر بالخجل من عيون البشر التي تنظر إلينا كعائدين. لو استطعت أن أقول لهم: “خذوا من لحمي وكلوا”. لكنها تبقى مجازات روائية في عقل امرأة تشعر بالعار من وجود هذا العالم المتوحش واستمراره. عار أنني أنتمي إلى هذا الجنس البشري.

ألتقط الصور، واحدة تلو الأُخرى، في جوبر. المدينة مهدّمة بالكامل. واضح أن حقدًا كبيرًا انصبّ عليها. التقيت بمجموعة شباب، ثم توجهت إلى رجل قال لي إن بيته هنا مهدّم، وهو يقوم بزيارته. عاد إلى جوبر بعد سقوط النظام. كان مطلوبًا للمخابرات، وعائلته نازحة، وبيوت أهل جوبر مرمية على الأرض.

سألته إن كان سيعود ليعمّر بيته، فأجاب بأنه ينتظر الحكومة لتعيد الإعمار، لكنه صبور. يقول: “أمام الحكومة الكثير من الأهوال والمشاكل”. ثم أضاف: “علينا جميعًا، كسوريين، أن نساعدهم وألا نستعجلهم”.

ابتلعت غصة. يا للطفه! اللطف أداة سياسية. قلت له: “وهل تنصحنا أن نتمهل عليهم؟”، فأجاب: “سورية خربانة وبدها سنين وسنين لتقوم. خلونا نكون رحيمين!”.

لا أتوقف عن البكاء. يخبرنا بعض الشباب ألّا ندخل بين البيوت لأنها آيلة للسقوط وخطرة. معنا مجموعة من الأصدقاء، ولا أريد التنغيص عليهم فرحتهم بسقوط النظام. أبتعد عنهم وأدخل في خراب البيوت، أحاول أن أوقف دموعي، لكنني لا أستطيع. حجم الدمار مرعب.

رأيت دمارًا هائلًا من قبل، في الشمال السوري، مدنًا وقرى بأكملها مدمّرة، وكان ذلك في عامي 2012 و2013. ولكن الآن، في دمشق، في مدينة تبدو كأنها مأهولة بأشباح وخيالات بشر، يرون بيوتهم المهدمة وينتظرون، يطلبون منا الصبر، أدركت أنني لا أستطيع الوقوف على الحياد! أعتذر من الجميع وأبتعد.

في داريا ودوما يبدو الوضع مختلفًا. الدمار كبير، لكن هناك بيوتًا ما تزال قائمة، وبشر يحاولون ترميم الحياة. يعيشون في بيوتهم المهدّمة، يستعيضون عن زجاج النوافذ بالبلاستيك. يعيشون في أماكن فارغة إلا من وسائد وفرش إسفنجية. أطفال ينبشون بين الركام، ربما يعثرون على شيء ما ليبيعوه ويشتروا الخبز.

يخبرني أحد الرجال أن بيته المقصوف، الذي أعاد بناءه، قامت شركة إنتاج سينمائي بهدمه مرة أُخرى ليكون مناسبًا للتصوير. سألته: “وماذا فعلت؟”، فأجاب: “عندما انتهوا، أعدت بناءه”.

صورة الدمار رهيبة. الألواح الإسمنتية تتلوّى، المادة الصلبة تتحول إلى سائلة، وكل ما حولي يبدو كأنه يتداعى ويسيل، وكأن عالمًا بأكمله يتحول إلى ماء. تختفي الحدود بين المادي والمحسوس. كل شيء مائع، يقترب من التحول إلى العدم.

في دوما، البشر أكثر نشاطًا. رغم خراب المدينة وتاريخها النضالي، الناس يركضون، يسعون، يلتقون، يجتمعون، ويتحركون. تبدو المدينة أقل استعدادًا للموت، كأنها مدينة محاربة، لا تستسلم.

أما في حرستا وزملكا وعربين، تلك البلدات التي تعرضت للكيماوي، فالمشهد لا يقلّ وحشية. دمار في كل مكان، ومع ذلك تستمر العائلات والبشر في متابعة حياتهم. الأطفال في هذه البلدات لا يشحذون، على عكس أطفال دمشق. هناك، الأطفال الشحاذون ينبتون كالعشب، عشب مدينة دمشق اليابسة. أتجنب النظر في عيونهم، فهي تحمل من الوجع أكثر مما أستطيع احتماله.

عند العودة إلى دمشق، أحاول أن أتعرف عليها من جديد. أنظر إلى الوجوه الجديدة، ليس فقط وجوه المقاتلين. تبدو دمشق وكأنها للمرة الأولى تستقبل ناسها كعاصمة. يدورون في كل مكان، ويمشون في شوارعها. في قلب ساحة المرجة، تجلس عائلات، تضع صور المفقودين والمختفين، وتنتظر. نساءٌ يرتدين ثيابًا محلية سوداء، عائلات من الرقة ودير الزور وريف حلب، أطفال ونساء وصبايا يتربعون في الساحة. ساحة المرجة نفسها تغيّرت. شعرت بقليل من الفرح لأنني تذكرتها. آخر مرة كنت فيها هنا كانت في مارس2011، خلال التظاهرة السلمية التي خرجنا فيها مطالبين بإطلاق سراح المعتقلين وإلغاء قانون الطوارئ.

الساحة اليوم تبدو كالحةً، لكنّها خالية من وجوه الشبّيحة المخيفة التي ما زالت تأتيني في كوابيسي. كنت أنظر، أحاول فهم الوجوه، وأبحث عن وجوه الشبّيحة الجدد. لكل مرحلة شبّيحة!

لا أريد زيارة الأماكن الراقية في دمشق. لم أحب يومًا ساحة الأمويين، على عكس الأصدقاء الذين استنكروا قولي هذا وأصروا على أنّها تستحق الزيارة، لكنني رفضت. صور بلدات ريف دمشق لا تفارق خيالي، المدن التي تتجاهلها الإدارة الجديدة، فلا تزورها ولا تتحدث عنها. الحكومة التي تعيش في قصر الشعب وتترك الشعب؛ الشعب اللطيف الذي قال أحد أبنائه إنّه سيكون صبورًا معها، وسيبقى نازحًا حتّى تنهي مهمتها. ولكن متى تنظر الحكومة في حاله وحال أمثاله؟

الشعب السوري مُتسامح. أقول متسامح لأنه منذ عام 2000 تسامح مع الأسد الابن واعتقد أنه سيفي بوعده. طوى الشعب السوري صفحة جرائم الأب، وفتح ذراعيه للابن الذي استولى زورًا على السلطة. وماذا كانت النتيجة؟ لقد نكّل بهم.

الشعب السوري المتسامح ينتظر. لا يعدمون الفرصة للبداية من جديد. هؤلاء الذين فقدوا عائلاتهم في القصف وفي المعتقلات، ودُمرت بيوتهم، بالكاد يعيشون على الحدّ الأدنى من الخبز اليومي. وليس هذا مجازًا. إنهم بالكاد يجدون لقمة الخبز، ومع ذلك هم أنفسهم من يريدون أن يعطوا فرصة. لكن من يسمعهم؟

في الفندق، العاملة التي تقوم بالتنظيف تخبرني قصتها. ما زلت أحتفظ بعادة وجود دفتر صغير أكتب فيه قصص من ألتقيهم. تقول العاملة إنّها فقدت اثنين من أولادها في صيدنايا. الشاب الذي يشرف على الفطور فقد أخاه. البنت المسؤولة تقول إنها خائفة من الإدارة الجديدة، لكنها لم تتعرض لأي تعنيف.

صوت فيروز يجعلني أشعر بالامتعاض. لا أعرف ما الذي حلّ بي. ليس الغضب، ولا الحزن. هذا تمامًا ما كنت أنتظره. لم يكن هناك عنصر مفاجأة.

الجملة التي تحرق حنجرتي ما تزال. لقد رأيتها. رأيتها بعيني في الساحات، وفي الطرقات، وبين وجوه الناس، وفي الصالحية، والحمراء، وداريا، وجوبر، وفي كل مكان. “الأسد أو نحرق البلد”. لقد احترق البلد.

وهذه أول مدينة أُعيد اكتشافها، لكن ليس كما يجب. هناك الكثير، الكثير من الحكايات التي كتبتها في دفتري الصغير، بانتظار اكتشاف آخر. وأنا أردد بيني وبين نفسي: ما فائدة تدوين الحكايات إذا لم تكن هناك عدالة؟ ما فائدة كل هذا سوى الإيغال في الثأر والانتقام؟

في محل لبيع المعجنات في باب توما، قال لي البائع: “وهاي وحدة على حب النبي، وأهلا وسهلا فيكم نورتوا بلادكم”. لم أخبره بأنني عائدة، لكني نظرت إلى وجهه اللطيف. كيف عرف؟ ابتسم قائلًا: “باين يا مدام، باين، كيف عم تطلعي فينا!”.

كانت عيناي مشرقتين بالدموع ولم أنتبه. انسحبت وأخذت الفطيرة “على حب النبي”، وأنا أشعر بخجل عميق. يا إلهي، كيف نخفي عيوننا الجريحة؟ يا إلهي، لا تحمّلني ما لا طاقة لي به. يا إلهي، أين ستذهب كل هذه الآلام في هذه المدينة التعيسة؟ يا إلهي، كيف نُصاب بالعمى وننير قلوبنا المكلومة حتى نقف بجانبهم ونخبرهم كم نحبهم؟

ظهر طفل في وجهي، وتراكض حوله عدة أطفال آخرين. قال لي: “قدّيه الدولار يا خالة؟”، نظرت إليه: “ما بعرف!”، أجاب باستغراب: “كيف يعني ما بتعرفي؟”، قلت: “والله ما بعرف!”. أعطيته فطيرة حب النبي وقلت له: “وحياة النبي محمد ما بعرف”. ثم قبّلت يده، وهو ينظر إلي مدهوشًا. تجاوزته، وساحة باب توما مكتظة بالبشر، والسيارات، والغبار، والبسطات. زعيق الباعة ينتشر في كل مكان، يغلّف سماء المدينة بوجوم كالح.

كان يلازمني شعور بأن كل خطوة أخطوها على أرض سورية تحمل ثقلًا لا يُطاق، وكأنني أدوس على ذكرى رفاقي الذين قضوا. لقد كانت هذه الأرض أشبه بمقبرة شاسعة، أنين العظام المتناثرة في المقابر الجماعية المنتشرة هنا وهناك تخترق جمجمتي، تحرمني من رفاهية المنتصر في التعالي على الجراح والنظر إلى الأمام. أعتذر للأصدقاء مرة أخرى لأنني لم أُصب بالبهجة الكافية بعد رحيل الطاغية. لقد سرق مني حتى تلك الفرحة.!

*العربي الجديد