حين تتأمل لحظة الربيع العربي، لا كحدث إنما ككسر في استمرارية زمنية، تلوح أمامك صورة مواطن عربي بائس استيقظ فجأة من سبات طويل من دون أن يعرف اسمه. لم يكن الخروج إلى الشوارع، في أوله، حركة سياسية بالمعنى التقليدي، بل كان تمزقًا في نسيج اللامبالاة؛ لحظة صمت طويلة قُطعت بصوت غير مألوف، كما لو أن الشعوب قد قررت أن تصرخ، لا لتُسمع، وإنما لتتأكد أن الصراخ ما يزال ممكنًا. ما انكسر لم يكن فقط جدار الخوف، إنما بنية التعوّد، بنية قبول العالم كما هو. في ذلك السياق التاريخي الطويل، حين ظل فيه الإنسان العربي محاصرًا بين خطاب الدولة وخطاب الجماعة الخافت، جاء هذا التمرد كخلخلة للتوازن الهشّ الذي كان يربط الفرد بالمعنى. لكنه لم يكن يقظة وعيٍ حقيقية، وإنما كانت تلك الصيحات تعبيرًا عن “رغبة في التحرر بدون إرادة للحرية”.
تبدو لحظة التمرد، هنا، كاستجابة غريزية لاشتداد القيد أكثر مما هي ثمرة وعي متراكم. هذا التمرد، حين خرج من جسد المجتمع، لم يكن يشبه ذاته إلا كصرخة تتألم ولا تعرف بالضبط موضع الجرح. وبهذا المعنى، فإنها ليست ثورة كما تُفهم في التاريخ السياسي الحديث، بل كانت أقرب إلى انفجار وجودي، أشبه بما يسميه نيتشه لحظة انبثاق الروح من الكهف. غير أن ما غاب عن هذه اللحظة هو ما كان نيتشه يعتبره شرطًا لتحوّل الكائن إلى ذات خلاقة: شجاعة المواجهة مع العدم، وليس الهروب منه. الإنسان العربي الذي خرج إلى الشارع لم يكن قد أنجز، في معظم الحالات، عملية تحرير ذاته من البنى الرمزية التي شكلته، بل حملها معه إلى الميدان. كان يطالب بإسقاط الطغيان، لكنه في قرارة ذاته لم يكن قد أسقط تصوره عن الطاعة، ولا بنى تصورًا جديدًا للسلطة. فكانت الثورة لحظة تعليق، معلّقة بين ما لم يعد وما لم يولد. في المقابل، فإن هذا التوتر ذاته – بين الرغبة في التحرر والعجز عن تخيل الحرية – يفتح الباب لفهم ما يسميه نيتشه بالعدمية المبدعة. فحين تسقط القيم وتفقد اللغة دلالتها، لا يبقى أمام الذات سوى أن تخلق المعنى بنفسها. غير أن هذه القدرة لا تنبثق من لحظة الانفجار، بل من مسار طويل من المواجهة مع الفراغ. العدمية، هنا، تمثل شرطًا للخلق. هي الشرخ الذي يجب اختراقه بدل رتقه. وإذا أردنا أن نأخذ هذه القراءة إلى مداها، وجب علينا التوقف عن سؤال: لماذا فشلت الثورات؟ والانطلاق نحو سؤال أكثر نيتشوية: ماذا كان يجب أن يموت فعلًا؟ في لحظة كهذه، المطلوب أن تنهار النظم السياسية ومعها الصورة الجماعية عن الذات، واللغة الموروثة، والمخيال الذي صنع الحاضر. وهذا ما لم يحدث. كانت الصرخة أقوى من القدرة على تحمّل صداها، فتحولت من إمكان للخلق إلى مقدّمة للنكوص. ومع ذلك، يحمل هذا السقوط ملامح الاستعداد البكر للخلق الجديد. السقوط هنا يفتح على لحظة ولادة لا تحدث إلا بعد عبور جحيم الفراغ. وهنا، على حافة المعنى، تبدأ إمكانية جديدة. الحرية لم تُمنح من الخارج، بل أصبح غيابها غير ممكن الاحتمال. من هذه النقطة، تبدأ إرادة القوة كطاقة داخلية خلاقة تُنتج القيم من رماد الفقد. الربيع العربي يتحوّل من كونه لحظة سياسية متوترة إلى صورة مكثفة للتاريخ حين يقرع الباب على شعب لم يقرر بعد إن كان سيخرج أم لا. في هذا المعنى، تمثل اللحظة نهوضًا نيتشويًا بامتياز: يقظة لم تكتمل، ونداء ما زال ينتظر إرادة تليق به. في هذا السياق، تظهر العدمية كحقيقة تاريخية. هي انكشاف على هشاشة المعنى. ما يتبقى حين تنهار الأنساق الموروثة بدون أن تبتكر الذوات بدائلها. المجتمعات التي اندفعت نحو الإمكانية الجديدة لم تسبق اندفاعها بمراجعة عميقة لتركيبتها الرمزية. لقد كانت تنتج خطابًا فوقيًّا بلغة مستعارة، وتطالب بنُظم لم تتكوّن لديها بعدُ الحاجة البنيوية إليها.
القيم تُنتزع
يذكّرنا نيتشه بكتابه “في جينيالوجيا الأخلاق” أن القيم لا تُستورد، بل تُنتزع من صلب الصراع. ما يغيب عن الوعي الجمعي العربي هو إدراك المسافة بين الانكشاف على الفراغ، وبين القدرة على تحويل هذا الفراغ إلى مجال للخلق. العدمية تُشكل لحظة يمكن أن تنبثق منها إرادة جديدة للمعنى. هذه الإرادة لا تظهر تلقائيًا، ولا تنبع من الصّدمة نفسها، بل تتكوّن عبر جهد طويل من الهدم الداخلي. في لحظات التحول الكبرى، يسقط النظام ومعه شيء ما في الوعي: الثقة ببداهة الأشياء، بالعالم كما هو، باللغة كما استُخدمت. وهذه السقطة — كما نعرف من نيتشه — لا تؤدي إلى اللاشيء، بل تفتح على إمكان جديد، أكثر قسوة، لكنه أكثر صدقًا. وكما أن نيتشه رأى في موت الإله موتًا يتجاوز الإيمان ليطاول الضمانة النهائية، فإن العدمية في العالم العربي لم تكن أزمة أنظمة فقط، إنما أزمة تأويل شاملة. سقوط الأنظمة كشف عن عنفها، كما كشف عن هشاشة بنية المعنى التي كانت تستبطنها الشعوب ذاتها. كانت الحرية مطلبًا لفظيًا بدون أن تتحول إلى مشروع رمزي، ولهذا لم تستطع المجتمعات أن تعيد إنتاج ذاتها بصورة جديدة. لقد اصطدمت “بصحراء المعنى”، أي ذلك الفراغ الذي تفقد فيه الكلمات دلالتها لأن الواقع نفسه لم يعد قائمًا. في هذه النقطة تحديدًا، تظهر هشاشة اللحظة كتعبير عن غياب عنصر نيتشوي أساسي: إرادة التقييم. لا قيمة من دون فعل سابق، ولا فعل يُؤسس ما لم يُخترق الحجاب الرمزي الموروث. القيم التي لم تُنتج من صراع داخلي تظل عاجزة عن التحول إلى معايير. ما حدث في المجتمعات العربية أن شعارات التحرر بقيت منفصلة عن التجربة النفسية العميقة للناس. بدت اللحظة وكأنها انقطاع عن شيء بدون اتصال بشيء جديد. وإذا كانت الثورات الأوروبية، كما وصفها الأدب والفكر، قد مرت بلحظات مريرة من الانكشاف، فإنها في تلك اللحظات بدأت تتحول.
يصوّر توكفيل بدقة تلك المسافة بين إسقاط النظام وبناء الذات الجديدة: “كان الناس يظنون أن مجرد سقوط الملك يعني بزوغ الحرية، لكنهم نسوا أن العرش لم يكن في القصر وحده، بل في العقول أيضًا”. هذه العبارة تنطبق على فرنسا القرن التاسع عشر كما تنطبق على أي مجتمع لم يخض تفكيكًا داخليًا لبنيته. ما لم يحدث بعد في العالم العربي هو تلك المراجعة الجذرية التي تتطلبها العدمية الخلاقة. النفي وحده لا يكفي، ولا الصراخ، ولا حتى الغضب. ما يُنتظر هو الوعي الذي يجرؤ على إعادة بناء الذات من حطام الذات. هذا ما يسميه نيتشه لحظة ولادة الطفل – رمز البراءة الثانية، والخلق الحر، والفعل الذي لا ينتظر تبريرًا. وإذا كانت الجماعات قد خرجت من الطاعة، فإنها لم تدخل بعد في الخلق. العدمية، هنا، توقفت في منتصف الطريق: تخلّت عن الماضي بدون أن تمتلك الجرأة على إعادة التكوين. هذا التوقف هو ما يفتح الباب للنكوص، للثورة المضادة، وللاستبداد الجديد الذي يتسلل من فجوات الخوف. فعندما لا تملأ الذات الفراغ، يتكفّل به الآخر. وهذا الآخر لا يكون دائمًا غازيًا، بل قد يظهر كظل الذات نفسها حين تعجز عن تجاوز ما كانت عليه. هكذا تُفهم العدمية النيتشوية لا كحالة سلبية، إنما كضرورة لا غنى عنها: الخلق لا يولد إلا من موت القيم القديمة. ولأجل أن يكون هذا الموت خصبًا، لا بد من أن يُعاش بوعي كامل. من دون ذلك، لا يبقى سوى انكشاف لا يتبعه تكوين، وصراخ لا يتلوه صوت. وهنا تحديدًا فشلت اللحظة: لم تتحوّل إلى نقد جذري لما سبقها، ولم تملك الطاقة لتكون بداية لما سيأتي. لقد وقفت عند العتبة، بدون أن تعبر.
في مأساة الوعي العربي
ما تبقى لم يكن نواة لدولة جديدة، بل فراغًا امتصه القديم في هيئة أشد ضراوة. لم تسقط الأنظمة وحدها، بل سقط معها الغلاف النفسي والرمزي الذي كان يضبط العلاقة بين الأفراد والسلطة. التذرر الطائفي، الانتماءات القَبلية، والارتكاسات الهوياتية لم تكن سوى مؤشرات على عودة المقموع، عودة ما لم يتم التفكير فيه أو تفكيكه قبل الانفجار. في عام 1848، كتب هاينرش هاينه ما معناه أن “الشعوب استيقظت من سباتها، لكن عيونها لم تتعوّد بعد على ضوء النهار”. عبارة تصلح لوصف مأساة الوعي العربي أيضًا. إذ ما إن خرجت الشعوب إلى الضوء، حتى أزعجها سطوعه، فعادت إلى الظل. لكن هذا الظل، في السياق العربي، ليس حيادًا ولا غيابًا، بل استعادة مأساوية لما يُفترض أنه قد اندثر. فالهوية الطائفية، حين تعود، لا تعود كذاكرة، بل كجهاز دفاعي. والانتماء القبلي لا يظهر كحنين، بل كملاذ. بهذا المعنى، فإن ما أعاد إنتاج نفسه بعد الربيع العربي لم يكن فقط الاستبداد، بل بنية ما قبل الدولة التي لم تمت أصلًا، كانت كامنة تنتظر انهيار الغلاف المدني لتعيد سيطرتها. ونيتشه، حين يتحدث عن “العود الأبدي”، لا يقصد تكرار الوقائع إنما تكرار البنية، تكرار ما لم يُفكك. وهذا بالضبط ما حصل: لم نواجه الموروث بوصفه مادة للتفكيك، بل حملناه معنا إلى لحظة الانفجار، ثم فوجئنا حين عاد، أقسى وأشد حضورًا. كان لا بد، من أن نموت رمزيًا كي نولد، لكن الموت الرمزي لم يحدث. وما جرى لم يكن قطيعة، بل التواء.
العدمية هنا لا تظهر في شكل فراغ، بل في شكل شبحٍ للماضي. وهذا أخطر ما في العدمية حين لا تكتمل: أنها لا تقود إلى خلق، بل إلى أشكال جديدة من التكرار المقنع. المجتمعات التي لم تُنجز فعل الولادة من داخل موتها الرمزي، تعيد إنتاج بنيتها الأولية دون وعي. في هذا الإطار، تتحول الطائفة إلى وطن، والعشيرة إلى أفق، ويصبح الأمن الشخصي بديلًا عن العقد الاجتماعي. ما حدث هو انكشاف الهشاشة الداخلية، لا السياسية فحسب، بل الوجودية. لقد سقطت الدولة، لكن لم تقم الذات مكانها. وكما أن نيتشه يرى أن العدمية غير المكتملة أخطر من العدمية التامة، فإن ما حصل في كثير من الدول العربية هو هذا الشكل الوسيط المدمر: لا طغيان واضح، ولا حرية ممكنة، بل شبكة من القوى الجزئية التي تتنازع على الأنقاض.
تُحيلنا هذه المشهدية إلى فكر نيتشه حول القيم السائدة والقيم العليا. فحين تنهار القيم العليا من دون أن تُستبدل بجديدة، تتفكك البنى الاجتماعية إلى وحدات أولية. ما يبقى ليس الأفراد، بل الذرات. والعرب، بعد لحظة الربيع، عادوا إلى التشظي، ليس فقط سياسيًا، بل رمزيًا. لم تعد هناك لغة واحدة، ولا سردية واحدة، ولا حتى كراهية واحدة. التمزق لم يكن في الجغرافيا فقط، بل في المخيال. والسؤال الذي طرحه هاينه عن انزعاج الشعوب من النور بعد الاستيقاظ، هو في جوهره سؤال عن نضج الرؤية. فالرؤية لا تتضح فورًا. الضوء، في مرحلته الأولى، يعمي. وبدل أن تقود اللحظة إلى التحديق، قادت إلى الارتداد. لم يكن هذا قصر نظر، بل رفض لا واعٍ لرؤية الذات على حقيقتها. والمجتمعات التي لا تحتمل صورتها، تعود للاختباء في أقنعة الهويات القديمة. هذه العودة، ليست قدرًا، بل فشلًا في استكمال الموت الرمزي. كل مجتمع يحتاج إلى طقس عبور، إلى موت قديم يولّد جديدًا. لكن العالم العربي توقّف في المنتصف: لم يمت، ولم يولد. ظل معلقًا، يتأرجح بين الماضي والحاضر، بدون القدرة على خلق المستقبل. وهكذا يصبح ما بعد الثورة ليس ما بعدها زمنيًا، بل ما تحتها رمزيًا: مرحلة غاصت إلى أعماق اللاوعي الجمعي، لتستخرج منه أقدم ما فيه. وما لم تُكمل المجتمعات هذا العبور، وتدخل في مرحلة تفكيك شجاعة لما تبقى من رموزها المهترئة، فإن العتمة ستظل مفضلة على النور، ليس لأنها أقل قسوة، بل لأنها أقل كشفًا. غير أن مأساة الوعي لا تكتمل إلا حين تصبح المفاهيم أدوات تعذيب رمزية. لقد أصبحت كلمات مثل الحرية والكرامة، التي كانت تنبض في ميادين القاهرة وتونس ودرعا، أشبه بصدى متعب، يتردد في الفراغ بدون أن يجد جسدًا يسكنه. وهذا ليس حدثًا عربيًا خاصًا. في إحدى رسائل فلوبير من زمن كومونة باريس كتب: “رأيت الكلمات تُشنق على أبواب القصر، لم يعد شيء منها يعني شيئًا”. حين تفشل اللغة، يبدأ الجسد بالتكلم. فالموجات الجديدة من اللاجئين في سياق الربيع العربي لم تكن فقط بحثًا عن أرض صلبة نضع عليها أبناءنا، بل كانت عند البعض خروجًا وجوديًا من بنية صامتة. وكما كتب ماركس في 1848 ما معناه أن أوروبا تعاني من شبح الثورة الذي لا يجرؤ على العودة؛ يمكننا أن نردد اليوم بأن العالم العربي صار يحوي أشباحًا لا تسكن الذاكرة، ولا تغادر الواقع. هذه الأشباح، التي تتنقل في العواصم الغربية، ليست مجرد كتل بشرية، بل رواسب رمزية لهوية لم تعد تجرؤ على الانتماء إلى ذاتها. واللغة التي باتت تتفكك أمام هول الصدمة، لم تعد تنقل الرغبة، بل تردد الفقد. في هذه اللحظة، تتحول العدمية من سؤال إلى تجربة جسدية: المنفى لم يعد قرارًا سياسيًا، واللجوء ليس مجرد هروب من الموت، بل استجابة باطنية لانهيار المعنى. نيتشه أشار إلى أن انهيار اللغة هو أول أعراض العدمية: حين لا تعود الكلمات تعني شيئًا، يكون الإنسان قد فقد علاقته بالعالم. وفي العالم العربي، لم تنهَر اللغة الرسمية فقط، بل تفككت اللغة الوجدانية، لغة الأمل والمجاز والحلم. صارت الحرية مفردة لا يمكن النطق بها بدون مرارة، وصار الوطن لفظًا يُقال على استحياء، وكأن الهُوية نفسها أصبحت عبئًا.
العدمية، هنا، تتجلى في أشد صورها تطرفًا: لا قدرة على المعنى، ولا جرأة على خلقه. الذات تخرج من التاريخ لا لتعيد تشكيله، بل لتتوارى عنه. إنها لحظة الانحلال الكبرى التي لا تعني الانتهاء، بل انتظار ولادة عسيرة. غير أن هذه الولادة لا تتم ما لم تُعاش المعاناة بكاملها، لا كمأساة، بل كإمكان. حين تُصبح الحرية صدى، تصبح المقاومة فعلَ ذاكرة. وهنا فقط يمكن للعدمية أن تتحول إلى خلق. لكن هذا التحول يفترض شرطًا أوليًا نيتشويًا: الاعتراف الكامل بأن الكلمات القديمة قد ماتت، وأنه لا معنى لإعادة تدويرها. ما لم يحدث في التجربة العربية هو هذا الاعتراف. لقد استُعيدت مفردات بلا جذر، ورددت شعارات بلا جسد. وكان لا بد من صمت، كي تعود الكلمات إلى الولادة. وها نحن أمام هذا الصمت: صمت المثقفين وجبنهم أمام المجازر المتكررة، صمت المنفي، صمت من فقد لغة الحلم ولغة الغضب. في هذا الصمت، تكمن إمكانية جديدة، لحظة الإنصات لصوت ما تحت الفكر، صوت الغريزة التي لم تُلوثها الشعارات. هذا الصوت، وحده، قادر على أن يخلق لغة جديدة، لا تصف الحرية، بل تكون هي ذاتها حرية. الخراب الذي نراه اليوم، لغويًا ورمزيًا وجغرافيًا، هو فرصة نادرة. إذ لا يخلق الجديد إلا حين تُمحى ذاكرة الكذب. واللغة العربية، في لحظة ما بعد الثورات، تحتاج لأن تموت كي تُولد. لا بالمعنى اللغوي، بل بالمعنى الرمزي: لا بد من أن تُفقد قدرتها على التزييف كي تُستعاد كأداة خلق. إن مغادرة الناس لأوطانهم لم تكن دائمًا فعل هروب، بل أحيانًا شكلًا من أشكال إعادة التكوين. في المنفى، لا يتحدث الإنسان لغته فحسب، بل يتحدث عن نفسه بصيغة جديدة. وإذا كانت المجتمعات العربية اليوم عاجزة عن تأويل ذاتها، فربما لأن الخطاب لم يعد يكفي. الجسد نفسه دخل في العدمية، صار حاملًا لذاكرة الفقد، لكنه أيضًا مستعد لأن يكون حاملًا لإمكان الولادة. وهكذا، فإن مفاهيم مثل الحرية والكرامة لا يجب أن تُستعاد كصدى، بل أن تُخترع من جديد. والاختراع، هنا، لا يكون إلا من قاع العدم، من ذاك الفراغ الذي لا يتحمّله إلا مَن امتلك الشجاعة للانفصال عن اللغة القديمة. وهذا ما يدعونا إليه نيتشه دائمًا: لا تقليد البطل، بل خلق الذات. والذات العربية، اليوم، إن أرادت النجاة، فعليها أن تبدأ من هذا الخراب كصفحة بيضاء لا كصفحة حزينة. إن ما نراه يُمثّل اختبارًا عميقًا لقدرة المجتمعات على الخلق بعد الصدمة، لا مجرد فشل للثورات. وقد تكون المرحلة القادمة مرحلة تربية لا خطاب. تربية كتربة تُزرع فيها التجارب الصغيرة، ويُعاد من خلالها تشكيل العلاقة مع الزمن. وكما كتب ألبير كامو: “الثورة، حين لا تلد إنسانًا جديدًا، تلد جلادًا جديدًا”. والسؤال الآن: هل يمكننا، في هذا الخراب، أن نربي في الظل نبتة الإنسان الجديد؟ ما تلا الثورات لم يكن إلا مرحلة تقويم خام غير مكتمل، إذ لا مشروع سياسي يملك فرصة النجاة إن لم يُولد من المخيال، ويُدعَم بالفرد المتحوّل.
الإنسان العربي، وسط هذا الركام، يختبر مأساة التكرار: يعي الصدمة، بدون أن يحوّلها إلى سردية. يتحدث عن القمع، بدون أن يُنتج شكلًا بديلًا للسلطة. يعيش، داخل الحنين إلى النظام، حتى وهو يتمرد عليه. من هنا، لا تُبنى التربة المنشودة في حقول المتاجرة السياسية المكشوفة، بل في الذهن. في قدرة العامل والمعلم، الفنان والطبيب، على ترميم صورة الذات في الوعي الجمعي. المعركة لا تدور في الحكومات والبرلمانات وحدها، بل في الصف الدراسي، في النص الشعري، في الفيلم المعروض، في المستشفيات، في الأسواق، في الشوارع. هذه هي الجبهات الجديدة التي تُخاض فيها معركة الخلق. نيتشه كان يعلم أن المجتمعات لا تُشفَى بالخطب، إنما بالأفعال التي تنسج معنى جديدًا للزمن. حين تُهزم اللغة، تبدأ الأجساد في الرقص من جديد. تعود الحياة لا كمطلب سياسي، بل كقوة شكلية تتجسد في الفن، في العلاقات، في اختراع اليومي. وهنا تُتاح للعدمية فرصة تجاوز مأزقها: تتحول من ألم الفراغ إلى طاقة توليد. إن إنسان ما بعد الثورة لا يولد بمرسوم أو بخطاب، بل يُنحت في وجدان الناس عبر سلسلة من التمارين البطيئة. من التعاطف، من الإحساس بالعار، من تكرار الأسئلة التي لم يُجب عنها أحد. ليس المطلوب إقناع الجماهير، بل تمكينها من رؤية ذاتها كفاعل تاريخي. وذلك لا يتم بخطاب الخلاص، بل بلحظات الفهم العميق التي تتيحها الفنون والتربية والاعتراف.
نبتة الإنسان الجديد تُزرع حين نتوقف عن التفكير في النصر، ونبدأ بالتفكير في التجذر. حين نكف عن إنتاج شعارات تعبوية، ونبدأ بإنتاج ممارسات شافية. فالحراك الذي لا يترك أثرًا في صورة الذات، لا يصنع ثورة، بل رجّات بلا اتجاه. ولا قيمة لانفجار لا يتبعه ترتيب جديد للعالم. في هذا السياق، يمكن للعدمية أن تكون بداية جديدة فقط إن تمّ الاعتراف بها بوصفها شرطًا للخلق لا سببًا للانكفاء. علينا أن ننظر في مرآة العدم ونرسم عليها ملامح الإنسان الذي لم يولد بعد. ذاك الإنسان الذي، كما يقول نيتشه، لا ينتظر القدر، ولا يحاكي الأبطال، بل يخلق نفسه من ذاته. السؤال إذًا لا ينبغي أن يكون: ما الذي سنبنيه؟ بل: من سنكون حين نبنيه؟ فالتحول الحقيقي لا يبدأ من المؤسسات، بل من الفرد الذي يعيد اكتشاف قوته كمصدر للقيم. وهذا الفرد لا يولد في الفوضى، بل في التمرين الطويل على الحرية. هكذا، وفي ختام هذه الرحلة العنيفة من السقوط، نصل إلى أفق بالغ الدقة: أن نخلق القيم في عالم بلا ضمانات. أن نكتب جملتنا الأولى من دون مرجع. أن نتعلم كيف نحيا، لا كما كنا، بل كما يمكن أن نكون.
ضفة ثالثة
Leave a Reply