انتشرت منذ عدة سنوات في محطات التلفزة الغربية، وفي مختلف برامجها، حتى الجاد والإخباري منها، ظاهرة الاستعانة بخدمات صحافيين ساخرين أو مؤدين لما يسمى بـ “كوميديا الموقف”، وبالإنكليزية المعرّبة، “الستاند أب كوميدي”. مثل هؤلاء المُرَفِّهين، الذين يُضفون ابتسامة على محتوى غالبًا ما يكون جديًا، يُعلقون على الأخبار ويبرزون بعض تناقضاتها أو يسخرون من تصريحات مسؤولين مهما علا شأنهم. كما يمكن لهم أن يتهكموا على شخوصٍ سياسية ودينية من دون أية خطوط حمراء. وكما تنص عليه القاعدة، بالبدء كانت الإذاعة التي أسمعت من به ميلٌ للسخرية باقاتٍ من التعليقات المتقنة على مدى عدة عقود. ومع انتشار التلفزة، انتقلت الظاهرة إليها وإلى برامجها الجادة والأقل جدية. وصار يرافقها مؤثرات بصرية متقنة، كما ويجري أحيانًا استعراضٌ لمقاطع مصورة ترتبط بحدث معين يتوقف عنده التعليق الساخر على شاشات التلفزة.
نتيجة لغياب من يعتمد عليه عادةً، لجأ برنامج شهير تعرضه شاشة القناة الخامسة الفرنسية الحكومية كل مساء للاستعاضة عنه مؤقتًا بمؤدٍ لكوميديا الموقف، وكان ذا أصول عربية كما الكثيرين من مشاهير هذا النمط في مختلف وسائل الإعلام وصولاً إلى خشبات المسارح، التي يقفون منفردين عليها للإدلاء بتعليقاتهم الساخرة معتمدين على تفاعل مباشر من الحضور. كان وجه المؤدي مروان بشوشًا ولقد عبّر عن اعتزازه، وهو المعروف على أثير الإذاعة الحكومية، بوقوفه للمرة الأولى أمام كاميرات التلفزيون. وسخّر جُلَّ فقرته للحديث بسخرية حول دوري كرة القدم الفرنسي مما استدعى ضحكات هستيرية من مقدمة البرنامج ورفاقها. وفي نهاية فقرته، نظر إليها مبتسمًا وقائلاً إنه سيكون سعيدًا إن عادت وطلبته للمشاركة مجددًا في برنامجها.
انتهى البرنامج ونام المشاهدون بعمق وهناء وعلى شفاههم ابتسامة صغيرة من مخلفات تعليقات مروان الساخرة وصدى ضحكاته الطفولية التي زيّنت فقرته، ليستيقظوا صبيحة اليوم التالي على جدل واسع اكتسح وسائل التواصل الاجتماعي أطلقته نائبة فرنسية من حزب الرئيس إيمانويل ماكرون في البرلمان الأوروبي. ماذا حلّ بالسيدة النائبة لشنّ هجومٍ لاذعٍ على القناة الخامسة وعلى معدي البرنامج وعلى مروان؟ وقبل أن نتعرّف على السبب “الوجيه” في ثورتها، نعود إلى مروان شكلاً بعد أن شرحنا أداؤه موضوعًا. لقد كانت لديه لحية كثيفة، وقد لبس سترة صوفية واسعة وغطى رأسه بقبّعة من الصوف. وانطلاقًا من لباسه على ما يبدو، بنت النائبة نوائبها على اعتبار أن لحية مروان سلفية وقبعته إسلامية ويرتدي العباءة. محللة في تغريداتها ما حصل على أنه دخولٌ مستتر للإسلاميين من باب الفكاهة التلفزيونية. ولقد اعتبرت كذلك بأن ما حصل يُنبئ بخطرٍ ماحقٍ يُهدّد التلفزة الحكومية.
سرعان ما انهمرت تعليقات المصابين بالرهاب من الإسلام، ذات اليمين وذات اليسار، للثناء على احتجاج النائبة. بل وذهبت هذه التغريدات إلى أبعد من ذلك، حين استرجع بعضها تغريدات لمروان نشرها منذ عدة سنوات، وذلك بهدف الإشارة إلى ميوله الذكورية والمعادية لحقوق المرأة ونشره الأفكار الهدّامة في المجتمع. وتوقفوا عند قوله: “على المرأة أن تلزم المنزل للعناية به وبوالدها ولا تخرج الى العمل” (…). ولقد تبنّت نائبة من حزب يمين الوسط الاحتجاج نفسه في الجمعية الوطنية الفرنسية، مما استدعى تعليقًا من وزيرة الثقافة رشيدة داتي، وهي من أصول مغربية، أعلنت من خلاله بأن مروان لن يعود مرة ثانية إلى الظهور على شاشة التلفزة الحكومية. وسارع الإعلام الشعوبي واليميني، الذي يكتسح المشهد الإعلامي الفرنسي خلال السنوات القليلة الماضية، إلى عقد الندوات الحوارية مع أبرز “مهيجي” الرأي العام للتوقف عند ما ارتداه مروان، مشيرين إلى حمولته الراديكالية، وخرجوا باستنتاجات يمكن لها أن تشكّل بذاتها حوارًا هزليًا رائجًا. كما وعملوا على إخراج عتادهم اللفظي الذي جعل من مروان مشروع إرهابي لجأ إلى أسلوب “التقية” عبر استخدام الفكاهة ليوصل رسائل متطرفة تُعرّض “قيم الجمهورية الفرنسية إلى الخطر”.
ضحالة وعي المهاجمين وسخافة تعليقاتهم صارت مادة دسمة لمروان نفسه كي يُعلّق عليها ساخرًا في عروضه المسرحية، مشيرًا إلى أن قبعته الصوفية هي لإخفاء صلعته ليس إلا. وبأن سترته الفضفاضة يخفي من خلالها بدانته. وأخيرًا، فقد اعتبر بأن مجرد كونه مسلماً من أصول عربية قد كان هو العامل الوحيد للهجوم عليه. وفيما يتعلق بتغريدته الذكورية، فقد تأكّد سوء النية باقتطاع جملة من حوار طويل مع صديقة كان يمازحها لأنها غابت عن منزلها بعض الوقت. لقد أوضح ما هو واضح كفاية. لكن يبدو أن مستوى العنصرية والرهاب من الإسلام وصل ببعض النخب السياسية الفرنسية، ومن مختلف المشارب الفكرية التقليدية، للإفصاح عنها بكل وقاحة ومن دون أي حذر كان يُميّز التصريحات العنصرية سابقًا، وحتى تلكم التي كانت تصدر عن اليمين المتطرف.
على الكاتب من أصول عربية أو إسلامية أن يهزئ بأصوله وبدينه حتى يحظى بالنشر لدى كبريات الدور وحتى يروّج له إعلاميًا. وعلى الساخر من الأصول نفسها، أن يسخر فقط من دينه ومن أهله. حينها يُضحك الرجل الأبيض، وكفى الله الفرنسيين شر مبادئهم الإنسانية الكونية.
*المدن
Leave a Reply