أقود سيارتي صوب تلك القرية الهادئة، لا تنفكّ سجاجيد العشب الصامت عن ملازمتي كلما نظرتُ يمنة ويسرة، وفوقي أسراب من الطيور المحلّقة ترافقني بعضها ربما لأخذي إلى وجهتي التي استشعَرتها أو لظنها أنني أرعى نوعاً غريباً وهادراً من الماشية الحديدية، أبطأتُ سرعتي قليلاً لنيل قسط آخر من الروعة والسكون، لكنّ هاتفي الذي تملّكَته الغيرة لعجزه عن مطاولة النوافذ قرر مشاكستي أخيراً، هادنته بإصبعٍ مني يمسح الضوء عن جبينه اللامع، وعفوتُ عن ضجيجه بتقريب وجهه الملوّن من أذني.
الرجل: مساء الخير يا سيدي، أعتقد أنك في طريقك إليّ الآن، إنني أنتظرك ومعي النقود التي أرسلها لك شقيقي لتسديد دينه المؤجل لك، إنه يبلغك شكره واعتذاره بسبب تأخره عن الموعد المتفق عليه بينكما.
حييته وأبلغته قبولي لاعتذار شقيقه، وسألته عن المكان الذي سنلتقي فيه عند دخولي القرية، وعندما وصفتُ له مكاني الذي أوجد فيه لأول مرة في حياتي، شعرت بالرضا ينبري من كلماته.
الرجل: كم أنت محظوظ بقدومك من هذه الطريق الأجمل بين شقيقاتها، إنك قريب جداً من بيتي، لا تغير اتجاهك على الإطلاق، وعندما تقترب من تجمّع البيوت انعطف إلى اليسار نحو «مثلث الحمار» ستجدني بانتظارك.
لم أصدق ما سمعته وشككت بنفسي وكذّبت فَهمي، هل يوجد مكان في الدنيا اسمه « مثلث الحمار»، ثم سألته مرة أخرى عن ذلك المكان الغريب.
الرجل: لا استغرب دهشتك وسؤالك لي مرة ثانية، ما سمعته يا سيدي هو الصواب، وعند وصولك إلى المكان سترى كل شيء بنفسك، بضع دقائق وستزول حيرتك المبررة.
ضحكتُ في قرارة نفسي حتى لا يلاحظ الرجل ذلك، وأكملتُ المسير كما طلب مني، كنت أقترب من ذلك المكان بشغفِ متفرّج أمامه بهلوان يثير الضحك وربما السخرية، وفجأة يحملني بساط الأوهام والجنون المؤقت في رحلة قصيرة، نهايتها حيث تختفي الطائرات وتغرق السفن ويفنى العابرون، إلى مثلث برمودا الرهيب، أفقتُ من ترّهات نفسي وودعت أباطيل خيالي، عندما رأيت ذلك الرجل يلوّح لي بيديه الاثنتين معاً، توقفتُ بالقرب منه ثم مددت يدي لمصافحته، وبدأت أعتذر عن تأخري في الوصول إليه لكثرة انشغالاتي.
الرجل: لا ضير في ذلك أبداً، أهلاً بك يا سيدي في قريتنا، تفضل بأخذ هذه النقود التي كلفني شقيقي بإعادتها لك، إن كان لديك متسع من الوقت فإنني أدعوك لزيارة بيتي القريب من هنا، لقد اخترتُ هذا المكان «مثلث الحمار» للقائك بسبب شهرته وسهولة الوصول إليه.
أخذتُ كيس النقود وطلبت منه إبلاغ شقيقه خالص شكري وأعمق تمنياتي، ثم وضعتُ يدي فوق كتفه وأنا أعتذر عن قبول دعوته اللطيفة، بعدها نظرتُ إليه بنوع من الجدية المتصنّعة، التي تئد رائحة الهزل التي قد تزعجه، وسألته عن «مثلث الحمار» .
الرجل: كنت أتوقع سؤالك، وقد قرأت ذلك في عينيك عند مجيئك، أنظر خلفك مباشرة من فضلك، وعندما تنظر ستعرف الإجابة.
رأيت ثلاثة شوارع صغيرة تتشابك أطرافها فتصنع مثلثاً بسيطاً، يملأه التراب ويحيط به سياج من الطوب بطبقة واحدة فقط، وفي مركزه عمود للكهرباء يلتفّ حول رقبته حبل من أحد أطرافه ويلتفّ أيضاً حول رقبة حمار من طرفه الآخر، وبقرب الحمار معلف خشبيّ طويل تناثرت بالقرب منه كميات مبعثرة من التبن، كان الحمار يقف شامخاً بكامل هيبته، تملأه الثقة المختلطة بنوع من الغرور، تتحرك جميع السيارات من حوله وتهدئ من سرعتها عند الاقتراب منه، لم يكترث لزمرهم أو طبلهم، ولم تخفه أصوات الكوابح المتتالية، بينما هو يحدق نحو جهة واحدة ونقطة واحدة في القفة نفسها وطريقة التأمل نفسها، فحتى الحشرات التي كانت تستمتع بطيرانها حول رأسه وباقي جسده المتحجّر، وأحياناً تصطدم به بشكل بطوليّ ولعدة مرات لم يأبه بها ولم يرفّ له جفن من رعونتها.
الرجل: إن صاحب هذا الحمار يسكن بالقرب من هذا المثلث الذي تراه، ولم يجد لحماره أفضل من هذا المكان القابع أمامك، وقد بقي الحال على ما تراه يا سيدي منذ سنوات عديدة، لذلك اكتسب المثلث هذا الاسم الذي يعرفه جميع أهل القرية وبعض من زوّارها، وقد أصبحتَ أنت أحدهم الآن.
ابتسمتُ له بنوع من الرضا، وأخبرته أن الحمارهو مخلوق مسكين لطالما تحمل التعب والعذاب، ومن الرقّة والإحسان تكريمه حتى لو كانت الصدفة هي المسبب لذلك، ويكفيه أنه قد أصبح علامة مميزة تُرشد القادمين
وتبعدهم عن التيه.
أثناء عودتي تذكرت ما سمعته يوما عن إحدى الحدائق في مدينة لندن، تلك التي توافد الكثيرون لرؤية نصب تذكاري أقيم فيها قبل عشرات السنين، النصب كان لخيول وحمير وكلاب يُراد تكريمها لمشاركتها في الحرب العالمية الثانية، وتحت تلك التماثيل قد كُتبت عبارة بليغة، «لم يكن لديهم حق الاختيار».

القدس العربي