رغم أجواء التفاعل التي تسود علاقة اللغة بالكتابة، في أزمنتنا الحديثة، بفضل ما تحقق خلالها من تقنيات وجماليات منقطعة النظير، فإن كلا من الطرفين يأبى إلا أن يظل محتفظا بغزارة أسراره، بعيدا عن أي سلطة اعتبارية، تدّعي لنفسها إحاطتها التامة والشاملة، بما قل من هذه الأسرار.
فبين ما تراكمه تقنيات التواصل الحديثة، من منجزات ذات صلة بعلوم المستقبليات، وتاريخ أبجدياتها العتيق، تمتد أزمنة طويلة من البحث، والسؤال، والقول، أولا: عما ينبغي تدوينه، وثانيا: عن كيفية إنجاز هذا التدوين، حيث كان يتحقق خلالهما، ذلك الانتقال التدريجي بوظيفة الكتابة، من مستوى التعبير الفردي والشخصي، إلى مستوى التعبير الجمعي، باعتبار أن اليد المفردة، هي المؤهلة بامتياز، للالتقاط الإشارة السرية من جنح ذلك المتخفي، كخطوة بدئية، باتجاه لحظة تعميمها على كل الأيدي الممتدة إليها. وهي اللحظة المفصلية المفضية إلى متعة اكتشافٍ متعدد المسارات به تحديدا يتكامل هاجس البحث مع قلق السؤال.
ومن الطبيعي أن يكون لهذا الانتقال، دور كبير في إحداث تغيير ملموس، يطال خصوصية «الشيء» المعني بالكتابة. ذلك أن القصد البدئي، الذي كان له الفضل في تحفيز اليد المفردة على تجريب لعبة التحبير، لا يتردد في مكاشفتنا بجذرية اختلافه، عن القصد الذي أهاب هو أيضا، وفي مرحلة تالية، بغابة الأيدي كي تندمج في متعة تملكه، والقبض على أسراره. ومن المؤكد أن حظوة لقاء اليد الأولى بالحرف، قد أبدعت من الحالات والأحوال، ما هو غائب عن إدراك غابات الأيدي، التي تسلمت شعلته لاحقا، حيث تظل تلك الحالات وتلك الأحوال متوارية عن أنظار المشترك، كي تستمر اليد الفردية، عبر تحولات الأزمنة، في ممارسة نسجها لخيوطها الذاتية، تلك التي حدث أن اهتدت إليها منذ آلاف السنين.
إنه الإشكال الكبير، الذي تحتفي الأسئلة بجمالية ترميزاته، والمعبر عنها بانفراط عقد دوامات حيرة مربكة، عبثا تتمكن الذات من استيعاب ما قلَّ من أجوبتها، التي كانت تطمح اليد الأولى إلى تدوينها، على جسد الصخر، جسد الروح، أو جسد الهواء. وأعني بها اليد التي كانت تتطلع إلى ائتمان الكتابة على سر ما. السر الذي كان ربما ينهش دواخل الذات، كي تبادر بالتفكير في تجديد نظرتها إلى ذاتها، عبر اقتلاعه ولو مؤقتا، من ظلمة الخبايا، ثم تثبيته من جديد، على سند مرئي وملموس، يقع ربما في مكان ما من الأمكنة المنسية، التي لا يطالها ضوء النظر. وهي بالمناسبة مبادرة، قد تتيح للذات، إمكانية معاينة بعض ملامح السر، فور انبثاق بعض علاماته من ظلمة الدواخل، وفور إعلانه عما تيسر من ملامحه تحت سراج انكتابه، حيث يتحقق بالرؤية العينية للسؤال، أكثرُ من خلاص.
والحديث عن إشكالية السر، الذي يخالج خاطر اليد الملوحة لك، من عمق أزمنتها السحيقة، يقتضي منك التموقع رمزيا، وزمنيا حيث هي، أي بموازاة خروجك المدبر من بيت الذاكرة الثقافية والحضارية، التي راكمتها مسارات القتل والإحياء، على امتداد ما يُتعارف عليه بالتاريخ البشري، والشروع في البحث عن مقامات ذلك الفراغ السديمي، الذي يحجب عنك مباهج السر، مكتسحا فضول رؤيتك، وطامسا كل سؤال محتمل، يجثم على كاهل الروح. ومن المؤكد أن استحضارنا لهذا الفراغ، يعني ضمنيا، استحضارنا للأرض البكر التي سينتشي الكائن بتقليب تربتها، وتلقيمها بأول بذوره الشعرية، التي ستتضاعف غلالها على امتداد الأزمنة. وإذا كانت الذاكرة الشعرية، قابلة لأن تمدنا بتفاصيل هذا السخاء، وبمختلف الهبات التي حظيت بها خلال اجتيازها لمنعطفاتها المتداخلة والمتشابكة، فإن أزمنة التأسيس الأولى، ستظل في اعتقادنا محتفظة بجمالية غموضها، وسحرية التباسها، ونعني بها، أزمنة اكتساح حالة الحيرة والدهشة لأجساد الكائن وأرواحه، تجاه مختلف الظواهر الطبيعية والإنسانية، المحيطة به، حيرة ودهشة مشوبتان، بكل مشاعر وأحاسيس الرهبة، والتوجس، والحذر، المتولدة عن تلبية نداء غواية الغامض والمستتر.
إنها اللحظات الجنينية، التي أهابت باليد الأولى، كي تمتد إلى الحرف/ الرمز، بغاية حفره ليس حيثما اتفق، لكن، حيثما يمكن أن يدوم قليلا، قبل أن يتحول تلقائيا إلى ما يشبه الأثر. هكذا، وفي خضم هذه المرحلة المتميزة من مسارات الشعرية الكونية، يحدث أن ينتاب اليد الكاتبة من الأحوال الغامضة، ما يأبى إلا أن يظل ملتحفا بدكنته التي تكتفي بالإيحاء دون البوح، اكتفاءها بالإشارة دون التسمية، وهي اللحظة ذاتها التي يستيقظ فيها، نبض اليد الأولى، كي تسطِّر- أسوة بما حدث في الأزمنة الغابرة – ما استعصى على الفهم والتفسير. وعلى أرضية تأويل منسجم مع رؤياه، سنقول: ذلك هو الشعر الذي تستبد أحواله بالكائن منذ بدء الخليقة إلى الآن. مع فارق نسبي ورمزي، يتمثل في تباين هندسة الأختام، بتباين أزمنة البوح والإشارة.
هو الشعر إذن، من أغرى اليد الأولى بتلمس إيقاع الكينونة، حيث يتموضع مسكن الحرف. شِعر، مجرد تماما من أي إطار مفهومي، وقبلِيٍّ، يُكرَه على الوجود فيه، أو يُعرَفُ بانتمائه إليه. شعر لا صلة له بوقت الشعر، ولا بمواصفات ليل الكتابة، أو بمنابر الإنشاد، غير أنه في الآن ذاته، شعر لا يستقيم الشعر إلا بحضوره. وهنا تحديدا، تمْثُل أمام العيان، صورة الطرس، ليس بمفهومها المعجمي، أو بدلالتها المجازية المتداولة، ذلك أن ما أعنيه بالطرس هنا، هو الكتاب المجرد، المغلق في السريرة على عنف انمحائه وانكتابه، قبل أن يأخذ في نهاية المطاف، شكل نص مدون، مرئي ومقروء، على هذا السند، أو ذاك. والطرس بهذا المعنى،هو السؤال الناسخ لجوابه، والصمت الناسخ صداه، والمجهول، الذي لا ثقة له بما يعلم. الطرس هنا، هو أيضا ذلك السر، الذي ليس للمكتوب أن يكاشف أحدا به. إذ حسبه أنه يموِّهُه بالعلامة المدثرة للعلامة، وبالحرف الذي يحجب صورة الحرف، حيث القول محض هديل، يخفي ظلَّ اليمام عن نوايا العين، ومحض هدير، يحجب البحر عن عري الجسد، إنه الكلام الممحو بالكلام الذي لا يبين.
ثمة السر، الذي تُهرِّبه الكتابة من الدواخل، خشية إجهاضه أو البوح به، لكن إلى أي جهة تُراه الآن يشير؟ جهة أي سماء، وجهة أي أرض؟ جهة أي قتل، أو إحياء؟ ولكم هي واسعة وشاسعة أراضي التكتم والصمت! هكذا تحجب اليد طرسها الذاتي عن أنظار الجمع، جانحة به إلى ميقات المحو، كي تعيد إنشاء طرسه الآخر، بغبار المحو ذاك وسديمه.. غبار يدثر ملامح السر، بما يكفي من العلامات، التي تتداخل فيها هيئة الحرف مع هيئة الصورة. مذكرا إيانا ربما بأصل الكتابة، هو محو شعري أو تكتم؟ تفيض من قرارة نبعه أنهار الكلام العام، التي تتدفق مياهها في كل مضايق القول وضفافه، دونما استثناء. والقول بالتكتم الشعري، هو الوجه الآخر للقول بالتكتم الروحي، والسحري، والسلطوي أيضا، حيث تتدثر الحقائق بحجاب الهيروغليفيا، كي لا تطال أسرارَها عينُ الغريب، وحرصا منها على أن تظل كذلك – أي سَمِيَّة التخفي والغياب ـ ستكون بحاجة ماسة إلى تفاديها لكل استهداف محتمل، صادر عن أقواس سدنة اليقين، من خلال تعميم غوايتها على أكبر مساحة ممكنة من فضاءات القراءة. هذا التعميم الاستباقي، من شأنه توسيع هامش الحد الأدنى من التلقي المشترك. وهو ما يتحقق تدريجيا عبر تتالي الأزمنة، ضمن جدلية التراكم الجمالي، الذي تتكفل قوانينه باستحداث مدونات المباح في حربها الدائمة مع مدونات المحظور. فيما يظل تكتم الشيء على ما هو كامن فيه، محتفظا بجواهره الخفية، حيث يحتفظ الشعري كدأبه بعناده المكابر، وهو ينكب على تقليبه الدؤوب، لأراضيه البكر والمبتذلة على السواء، بحثا عما يمكن أن تهندسه أيدي الكتابة من رحابات.
القدس العربي
Leave a Reply